* بقلم : محمد لحظانه المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي
ليست هذه السطور ردّ فعل عابر، ولا مجرد مشاركة في لحظة جدل، بل هي تعبير عن شعور قديم بالامتعاض، تولّد منذ وقت بعيد بسبب ما يُشبه العزوف المزمن – في بعض الدوائر – عن تثمين الإنجازات بما تستحق، حتى حين تأتي محمّلة بالدلالة، مفعمة بالرسائل، وقريبة من هموم الناس. وقد أعاد إلى السطح هذا الشعور – مؤخرًا – قرار رئاسي نبيل تمثّل في تسوية وضعية الآلاف من عمّال المؤسسات العمومية؛ خطوة مستحقة، تأخرت كثيرًا، لكنها في توقيتها ومضمونها تحمل دلالة عميقة: أن الإصلاح الاجتماعي لم يُنس، وأن هناك وفاءً هادئًا لمن خدموا الدولة بصمت.
لكن المفارقة التي أثارت هذا الامتعاض وأيقظت الرغبة في الكتابة، هي أن هذه الخطوة، رغم رمزيتها الاجتماعية وتأثيرها المباشر على فئات واسعة من الأسر الموريتانية، لم تحظَ بما تستحق من مواكبة داخل الصف الداعم، ولم تُنزل في مكانها الصحيح ضمن سياق الإصلاحات الكبرى. بدت وكأنها تفصيل ثانوي في مشهد مزدحم، في حين أنها – في العمق – تعبير صادق عن روح المشروع الإصلاحي الذي يستحق التأمل والاحتفاء.
تعودنا – منذ سنوات – أن تتوالى عقب كل إنجاز حكومي أو رئاسي بيانات حزبية تثمينًا، وتتبعها تدوينات متفرقة على وسائل التواصل الاجتماعي تكرّس نفس النغمة، دون أن يعقب ذلك أي نشاط حزبي، أو تلفزيوني، أو إذاعي يضُم شخصيات وطنية وازنة ومؤهلة لمناقشة أبعاد القرار أو الإنجاز، وتفكيك دلالاته وتبصير الرأي العام بنتائجه. وهكذا، يغيب الإدراك الحقيقي في الذاكرة الجمعية، وتُترك المساحة خالية للمشككين ليعيدوا إنتاج خطابهم دون رادع موضوعي أو منبري.
منذ انطلاق المأمورية الأولى لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، بدأ يتشكل في البلاد مسار إصلاحي هادئ ومتوازن، يرتكز على التهدئة، وترسيخ منطق الدولة، ووضع المواطن في صدارة الاهتمام. ومع وضوح هذا النهج، التفتت إليه فئات واسعة من الطيف السياسي الوطني، من الأحزاب السياسية، مرورًا بمبادرات مستقلة، وصولًا إلى نخب فكرية وشخصيات وطنية آمنت بالمشروع، ورفعت شعار: “غزواني مرجعيتنا”.
هذا الشعار عبّر في لحظات كثيرة عن التفاف معنوي صادق حول خيار الإصلاح، وعن رغبة في الانتماء إلى مرجعية تستمد مشروعيتها من العمل الهادئ والنجاحات المحققة. غير أن من الطبيعي في مثل هذه المسارات أن تواجه لحظات فتور، وتحتاج إلى مراجعات تعزز المسيرة وتمنحها نفسًا جديدًا.
فمبادرة “غزواني مرجعيتنا” – كمثال – التي انطلقت بحيوية لافتة خلال الحملات الانتخابية، شهدت بعد الانتخابات انكماشًا، إذ انكفأ نشاطها داخل فضاء افتراضي ضيق، لا يعكس تطورات المرحلة ولا عمق الرهان. وهنا لا نقف موقف اللوم، بقدر ما نسجّل ملاحظة محبة وعتب، مفادها أن الحماس الذي حملته البدايات لا يزال ممكنًا إنعاشه، وأن الرهان على المرجعية يتطلب تفعيلًا مستمرًا، وليس مجرد حضور ظرفي.
الأمر لا يقتصر على مبادرة واحدة، بل ينسحب – بدرجات متفاوتة – على مختلف مكونات الصف الداعم، التي قدّمت جهودًا مشكورة، لكنها لم تبلغ بعد مستوى التحديات ولا طموح اللحظة، لا سيما في المجال الإعلامي والسياسي. فالإنجازات النوعية التي تحققت بحاجة إلى خطاب يُبرزها ضمن رؤية وطنية متكاملة، تُقنع الداخل، وتشرح للخارج، وتُساهم في صياغة وعي جماعي جديد.
قدم فخامة الرئيس نموذجًا فريدًا في الصمت المنتج والانشغال الهادئ بما ينفع الناس، لكن غياب المرافقة السياسية والإعلامية الفاعلة من بعض الداعمين أفسح المجال – عن غير قصد – لحملات التشويش والتشكيك، التي استغلت ذلك الفراغ لتضخيم الروايات السلبية، دون مواجهة بسردية رسمية واثقة تعكس حجم الجهد المبذول.
ومن الطبيعي، في ظل هذا النقص الترويجي، أن يتسلّل لدى البعض شعور قلق، وإن لم يُصرّح به، مفاده أن المكتسبات التي تحققت بهدوء وبلا ضجيج قد لا تلقى ما تستحقه من التحصين والتمتين، بل وقد تتعرض للتآكل أو التجاهل في حال تغيّرت السياقات أو تبدلت التوازنات السياسية. وهي هواجس قد لا تكون في محلها بالضرورة، لكنها تعكس أهمية المرافعة الدائمة عن المشروع، وحاجة الإصلاح إلى من يُحسن الدفاع عنه بذكاء واستباق.
إن التعامل مع شعار “غزواني مرجعيتنا” يجب أن يتجاوز الإطار الرمزي، ليصبح التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا دائمًا، يُترجم في وضوح الرؤية، وجدية الأداء، واستعداد دائم لمساءلة الذات قبل نقد الآخر. فالرئيس حين اختار الإصلاح خيارًا استراتيجيًا، لم يكن يبحث عن حفاوة عابرة، بل عن وعي جماعي مسؤول يواكب هذا الخيار ويؤمن به ويدافع عنه في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب.
والمواطن من جانبه لم يعد يكتفي بالشعارات، بل ينتظر من مناصري المشروع أن يكونوا على قدر من الصراحة والوضوح في شرح المنجز، وفي طرح ما تبقى من نواقص، لا من باب المزايدة، بل من منطلق الحرص والمسؤولية.
اللحظة تتطلب وقفة مراجعة من الجميع، لا تحمل جلدًا للذات، بل تعيد ترتيب الأولويات، وتمنح شعار “غزواني مرجعيتنا” ما يستحقه من جدية وتجدد، فلا يكون عنوانًا موسميًا، بل عقدًا دائمًا من الثقة والوفاء والانتماء لمشروع الدولة العادلة والفاعلة.
رفع هذا الشعار ليس تمايزًا عن الآخرين، بل إعلان التزام، يُحمّل أصحابه مسؤولية التعبير عن المشروع ليس باسمه فقط، بل بفعله وروحه، وبما يليق به من نضج في الخطاب، وصدق في الأداء، واتساق بين القول والعمل.
هكذا حتى لا تبقى المرجعية مجرد صدى لحماسة عابرة، بل تعبيرًا حيًا عن وعي جماعي ناضج يترجم النوايا إلى أفعال، والوفاء إلى بناء، والانتماء إلى إصلاح لا يعرف التراجع.هكذا نفهم المرجعية وهكذا يُصان المشروع