يشهد المشهد الاقتصادي العالمي حالة متزايدة من الاضطراب والتقلب نتيجة السياسات التجارية المثيرة للجدل التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فمع توالي الإعلانات عن فرض رسوم جمركية على عدد من الشركاء التجاريين، من كندا والاتحاد الأوروبي إلى اليابان والبرازيل، ترتفع حدة المخاوف بشأن مستقبل التجارة العالمية وتأثير هذه القرارات على حركة الأسواق المالية وأسعار العملات والمعادن والنفط. وفي هذا السياق، رصدت الأسواق ارتفاعًا ملحوظًا في سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسية، إلى جانب تقلبات في أسعار الذهب والنفط، ما يعكس القلق المتزايد لدى المستثمرين إزاء التداعيات المحتملة لهذه القرارات على النمو الاقتصادي العالمي.
اضطراب المشهد التجاري يرفع الدولار
ارتفع الدولار، اليوم الجمعة، وسط المزيد من المؤشرات إلى اضطراب المشهد التجاري العالمي، بعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض المزيد من الرسوم الجمركية، وأوضح أنه يعتزم فرض رسوم موحدة بنسبة 15% أو 20% على معظم الشركاء التجاريين. واستقرت معظم العملات في نطاقات ضيقة في وقت مبكر من جلسة التداول الآسيوية، إلا أن الدولار ارتفع في وقت لاحق مدفوعًا بتصريحات ترامب الأخيرة التي زادت حالة الضبابية حول سياسته التجارية المتغيرة، وفقًا لوكالة "رويترز".
وانخفض الدولار الكندي بنسبة 0.27% إلى 1.3693 مقابل الدولار الأميركي، بعد تراجعه بأكثر من 0.5% عقب إعلان ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 35% على السلع المستوردة من كندا، والتي قال إنها ستدخل حيز التنفيذ في الأول من أغسطس/آب. في السياق ذاته، قال توني سيكامور، محلل الأسواق لدى "آي.جي"، لـ"رويترز": "تم تجاهل أنباء الرسوم الجمركية إلى حد كبير حتى الآن، ولكن كندا... إنها شيء لا أعتقد أن السوق كانت مستعدة له".
من جانبه، صرح ترامب، يوم أمس، بأن الاتحاد الأوروبي قد يتلقى رسالة بشأن معدلات الرسوم الجمركية بحلول اليوم الجمعة، ما يلقي بظلال من الشك على تقدم المحادثات التجارية بين واشنطن والتكتل. وتراجع اليورو بنسبة 0.2% إلى 1.1682 دولار، ويتجه لانخفاض أسبوعي بنحو 0.9%. كما تراجع الدولار الأسترالي الحساس للمخاطر بنسبة 0.11% إلى 0.6581 دولار وسط حالة من القلق العام في السوق.
ووفقًا لـ"رويترز"، قال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إنه يسعى إلى حل دبلوماسي لمسألة تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على بلده، لكنه تعهد بالرد بالمثل إذا دخلت الرسوم حيّز التنفيذ في الأول من أغسطس/آب. ولم يشهد الريال البرازيلي تغيرًا يُذكر، مسجلًا 5.5321 مقابل الدولار، لكنه يتجه لتكبد خسارة أسبوعية بنسبة 2%، في أكبر انخفاض له منذ نحو خمسة أشهر.
وتراجع الجنيه الإسترليني بنسبة 0.16% إلى 1.3558 دولار، ويتجه لتكبد خسارة أسبوعية تتجاوز 0.6%. كما هبط الدولار النيوزيلندي بنسبة 0.34% إلى 0.6015 دولار، وانخفض الين الياباني بنسبة 0.44% إلى 146.91 للدولار، ويتجه لانخفاض أسبوعي بنحو 1.6% بعدما فرض ترامب على طوكيو رسومًا جمركية بنسبة 25% في وقت سابق من هذا الأسبوع.ر
ورغم أن رد فعل السوق على سلسلة إعلانات ترامب بشأن الرسوم الجمركية كان محدودًا مقارنة بعمليات البيع المحمومة التي أعقبت الإعلان عن رسوم في إبريل/نيسان، فإن المستثمرين يشعرون بالقلق إزاء آفاق التجارة العالمية، ومدى جدّية الموعد الذي حدده ترامب لتطبيق الرسوم في الأول من أغسطس/آب. ودعم هذا الوضع ارتفاع الدولار بنسبة 0.2% في أحدث التداولات إلى 97.77 مقابل سلة من العملات، ويتجه لإنهاء الأسبوع على مكاسب بنسبة 0.8%. وفي ما يتعلق بالعملات المشفرة، سجلت عملة "بيتكوين" ذروة جديدة عند 117.685.96 دولارا، مدفوعة بالأساس بطلب من مؤسسات استثمارية. كما قفزت عملة "إيثر" بأكثر من 6% لتلامس أعلى مستوى لها في خمسة أشهر عند 3017.81 دولارا.
ارتفاع أسعار الذهب
ارتفعت أسعار الذهب، اليوم الجمعة، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الكندية، وتهديده بفرض رسوم أوسع على شركاء تجاريين آخرين. غير أن قوة الدولار حدّت من مكاسب الذهب وسط تنامي المؤشرات إلى اضطراب التجارة العالمية، وفقًا لـ"رويترز".
وصعد الذهب في المعاملات الفورية بنسبة 0.3% إلى 3333.67 دولارا للأونصة بحلول الساعة 02:45 بتوقيت غرينتش، فيما زادت العقود الأميركية الآجلة للذهب بنسبة 0.6% إلى 3345.10 دولارا. وقال ترامب، أمس الخميس، إن الولايات المتحدة ستفرض رسومًا بنسبة 35% على الواردات الكندية، وتخطط لفرض رسوم موحدة بنسبة 15% أو 20% على معظم الشركاء التجاريين الآخرين.
وجاء ذلك عقب إعلانه، يوم الأربعاء، عن رسوم بنسبة 50% على واردات النحاس وضريبة مماثلة على الواردات من البرازيل، ليُضاف ذلك إلى قائمة من الشركاء الذين تلقوا إشعارات بفرض رسوم، من بينهم اليابان وكوريا الجنوبية، على أن تدخل الرسوم الجديدة حيز التنفيذ في الأول من أغسطس/آب.
وقال تيم ووترر، كبير محللي السوق لدى "كيه.سي.إم تريد"، لـ"رويترز"، إن الذهب لم يحصل على الدعم السابق ذاته رغم تصاعد حروب الرسوم الجمركية، إذ أصبح المستثمرون أكثر اعتيادًا على هذا النوع من القرارات وأسلوب ترامب السياسي. ويتجه مؤشر الدولار لتسجيل أفضل أداء أسبوعي له منذ 24 فبراير/شباط، ما يجعل الذهب أغلى ثمنًا للمشترين بعملات أخرى. وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، ارتفعت الفضة في المعاملات الفورية بنسبة 0.4% إلى 37.17 دولارا للأونصة. وتراجع البلاتين بنسبة 0.2% إلى 1358.61 دولارا، بينما زاد البلاديوم بنسبة 0.2% إلى 1143.55 دولارا.
أسعار النفط تسجل ارتفاعًا طفيفًا في التعاملات المبكرة
سجلت أسعار النفط ارتفاعًا طفيفًا في التعاملات المبكرة، اليوم الجمعة، بعد انخفاض بنسبة 2% في الجلسة السابقة، نتيجة خفض منظمة "أوبك" توقعات الطلب، إضافة إلى الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها ترامب والتي قد تؤثر سلبًا على النمو العالمي. وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت بمقدار 44 سنتًا، أو 0.64%، إلى 69.08 دولارًا للبرميل بحلول الساعة 06:49 بتوقيت غرينتش. كما صعدت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي بمقدار 52 سنتًا، أو 0.78%، إلى 67.09 دولارًا. وعلى مدار الأسبوع، ارتفع خام برنت بنسبة 1.1%، بينما زاد الخام الأميركي بنسبة 0.1%، بحسب "رويترز".
وكانت "أوبك" قد خفضت في تقريرها السنوي لتوقعات النفط لعام 2025، الصادر أمس الخميس، تقديراتها للطلب العالمي للفترة الممتدة من 2026 إلى 2029، مرجعة السبب إلى تباطؤ الطلب من الصين. وتوقعت أن يبلغ الطلب العالمي في 2026 نحو 106.3 ملايين برميل يوميًا، بانخفاض عن توقعات سابقة عند 108 ملايين برميل.
ومن المتوقع أن يقترح الاتحاد الأوروبي فرض سقف متحرك على أسعار النفط الروسي ضمن حزمة عقوبات جديدة، بعدما فقد السقف الحالي فعاليته نتيجة تراجع الأسعار، وفق ما نقلته مصادر دبلوماسية. وفي سياق متصل، قالت خمسة مصادر في قطاع النفط إن صادرات السعودية من الخام إلى الصين ستسجل في أغسطس/آب أعلى مستوى لها منذ أكثر من عامين، حيث تعتزم أرامكو شحن نحو 51 مليون برميل بمعدل 1.65 مليون برميل يوميًا، بحسب "رويترز".
ووفق بيانات "رويترز" و"كبلر"، تمثل هذه الكميات زيادة قدرها أربعة ملايين برميل عن مخصصات يوليو/تموز، وهي الأعلى منذ إبريل/نيسان 2023. وتستعد شركة "سينوبك" الحكومية الصينية لاستلام كميات إضافية بعد إنهاء أعمال صيانة في منشآتها. وكانت السعودية قد رفعت أسعار النفط للمشترين في آسيا وأوروبا بأكثر من دولار للبرميل لشهر أغسطس/آب، وسط توقعات بزيادة في الطلب المحلي، ما قد يقلل من حجم الصادرات. ويُتوقع أيضًا أن يزداد الاستهلاك الصيني. كما تأتي زيادة الإمدادات في أعقاب اتفاق تحالف "أوبك+" على زيادة الإنتاج بمقدار 548 ألف برميل يوميًا في أغسطس/آب، في إطار خطط التحالف لإلغاء التخفيضات الطوعية السابقة.
وكتب محللو "آي.إن.جي" في مذكرة للعملاء: "هذا الصباح، عوضت الأسعار بعضًا من خسائرها بعد إعلان ترامب عزمه على إصدار إعلان 'مهم' بشأن روسيا يوم الاثنين، ما أثار قلق السوق من احتمال فرض عقوبات إضافية على موسكو". وأبدى ترامب خيبة أمله من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب غياب التقدم في جهود السلام مع كييف والقصف المتواصل على المدن الأوكرانية. وذكر محللو "بي.إم.آي" أن العوامل الأساسية للسوق، إلى جانب تحسن الطلب الموسمي وتجدد هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، قدمت دعمًا إضافيًا لأسعار النفط، وأشاروا إلى إمكانية تسجيل فائض كبير في السوق العالمية في الربع الرابع، ما يزيد الضغط على الأسعار.
تعكس التطورات الأخيرة في الأسواق العالمية حجم التوتر والقلق الذي يعيشه الاقتصاد الدولي في ظل السياسات التجارية غير التقليدية التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تتسم بالتقلب والمفاجآت. فالإعلانات المتلاحقة عن فرض رسوم جمركية على حلفاء وشركاء استراتيجيين مثل كندا والاتحاد الأوروبي واليابان، إضافة إلى دول ناشئة كالبرازيل، لا تقتصر تداعياتها على تراجع الثقة في النظام التجاري العالمي القائم منذ عقود، بل تمتد لتخلق موجات من القلق لدى المستثمرين وتؤثر سلبًا على حركة التجارة والنمو الاقتصادي العالمي.
إن ارتفاع الدولار الأميركي في هذا السياق لا يعكس قوة في أساسيات الاقتصاد الأميركي بقدر ما يعكس هروبًا استثماريًا نحو "ملاذ آمن نسبيًا"، إذ يظل الدولار الخيار الأقل مخاطرة مقارنة بعملات تتعرض لضغوط ناتجة عن الرسوم الجمركية أو التهديدات التجارية. ومع ذلك، فإن ارتفاع الدولار يؤثر سلبًا على أسعار السلع الأساسية، خصوصًا الذهب، الذي يتراجع عادة عندما ترتفع قيمة الدولار، ويصبح أكثر كلفة لحاملي العملات الأخرى، رغم كونه ملاذًا تقليديًا في أوقات عدم اليقين.
وفي الجانب الآخر، تأثرت أسواق النفط بوضوح بسياسات ترامب، إذ إن الرسوم الجمركية المفروضة على عدة دول، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة، ولا سيما في علاقات واشنطن مع موسكو وطهران، تهدد بإضعاف الطلب العالمي على الطاقة. ورغم محاولات دول مثل السعودية تعويض التراجع المحتمل في الطلب عبر زيادة الإمدادات إلى أسواق استراتيجية مثل الصين، فإن الخوف من فائض في المعروض خلال الأشهر المقبلة يضغط على الأسعار، كما أن تحركات "أوبك+" لضبط السوق تواجه تحديات نتيجة التغيرات السياسية المفاجئة وصعوبة التنبؤ بسلوك المستهلكين والمستوردين في ظل التوترات التجارية.
ومن جهة أخرى، فإن استمرار التصعيد التجاري من طرف الولايات المتحدة يعيد إلى الواجهة الحديث عن إمكانية الدخول في حرب تجارية شاملة، قد لا يخرج منها أي طرف رابحًا، إذ إن القيود التجارية المتبادلة غالبًا ما تؤدي إلى انخفاض النمو، وارتفاع التكاليف على المستهلكين، وتراجع الاستثمارات، وتفكك سلاسل التوريد العالمية. ويأتي هذا في وقت حساس بالنسبة للاقتصاد العالمي الذي لم يتعافَ بعد بشكل كامل من آثار الأزمات السابقة، ويواجه تحديات بنيوية مثل تباطؤ الاقتصاد الصيني، وأزمات سلاسل الإمداد، وتغير السياسات النقدية في البنوك المركزية الكبرى.
في ظل هذا المناخ، من المتوقع أن تستمر الأسواق في تقلباتها خلال الفترة المقبلة، مع ترقب المستثمرين أي مؤشرات إلى تراجع أو تصعيد في سياسة ترامب التجارية، أو تدخلات من قبل الفيدرالي الأميركي أو الدول المتضررة. كما أن مدى قدرة المؤسسات الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية، على احتواء هذه النزاعات سيُشكل عاملًا مهمًا في تهدئة الأسواق أو زيادة اضطرابها.
وعليه، فإن استمرار هذه السياسات دون استراتيجية واضحة أو تفاهمات دولية قد يؤدي إلى إعادة صياغة النظام التجاري العالمي، بما يشمل تحالفات جديدة، ومسارات بديلة للإمداد، وربما إضعاف مكانة الولايات المتحدة بصفة قائد للنظام الاقتصادي العالمي، وهو ما بدأت تظهر ملامحه في ازدياد التعاملات بين الدول بالعملات المحلية، والنقاشات حول "فك الارتباط" عن الدولار في التسويات التجارية. كل ذلك يجعل من ملف الرسوم الجمركية أداة مزدوجة الحافة، نتائجها تتجاوز الاقتصاد لتطاول الجغرافيا السياسية والنظام العالمي برمّته.