أعمارة النعمة 1962: محكمة استثنائية في سياق تأسيس الدولة

محمد سالم ولد لكبار

 

شكّل الهجوم المسلّح على الثكنة العسكرية بمدينة النعمة، ليلة 29 مارس 1962، لحظة فارقة في مسار تشكّل أدوات الدولة الموريتانية الفتية، لمواجهة التهديدات الأمنية الجسيمة، في سياق داخلي وإقليمي بالغ التعقيد. فقد أسفر الهجوم، الذي نفّذته مجموعة مسلّحة مناوئة للوجود الفرنسي في البلاد، عن مقتل ثلاثة ضباط فرنسيين وإصابة ثلاثة عشر آخرين، ما عجّل باتخاذ تدابير قانونية استثنائية.

أمام هذا الظرف الطارئ، قررت السلطة التنفيذية انتهاج مسار قضائي خارج الأطر القضائية العادية، تمثّل في إعادة تفعيل المحكمة الجنائية الخاصة، وسنّ حزمة من النصوص القانونية المكمّلة، بهدف تعزيز هيبة الدولة وفرض الردع على كل محاولة تمرّد أو تهديد لوحدة الدولة وسلطتها، و انعقدت هذه المحكمة في العاصمة نواكشوط خلال شهر أبريل من عام 1962.

تهدف هذه القراءة إلى تحليل الإطار القانوني والتنظيمي الذي تأسّست عليه المحكمة، وقياس مدى انسجام تشكيلتها وأحكامها مع القواعد الدستورية والإجرائية الموريتانية، وخاصة دستور 1961 وقانون الإجراءات الجنائية الصادر في نفس العام، كما تسعى إلى مساءلة مدى احترام المحكمة لضمانات العدالة الجنائية وحقوق المتقاضين، في ضوء مبدأ سيادة القانون.

أولا: الإطار القانوني والتنظيمي للمحكمة الخاصة

1.1 السياق القانوني لإعادة إنشاء المحكمة

تأسّست المحكمة الجنائية الخاصة لأول مرة بموجب القانون رقم 61.048 الصادر بتاريخ 15 مارس 1961، استجابةً لحاجة الدولة إلى جهاز قضائي قادر على التعاطي مع الجرائم التي تمسّ الأمن القومي، والتي لا تتلاءم مع بطء وتعقيد الإجراءات أمام المحاكم العادية.

ومع تفجّر الأوضاع الأمنية في مارس 1962، أعيد تفعيل المحكمة عبر القانون رقم 62.092 الصادر في 7 أبريل 1962، بغرض محاكمة المتهمين في أحداث النعمة، وتزامن ذلك مع صدور القانون رقم 62.093 في اليوم ذاته، والذي منح رئيس الجمهورية تفويضًا استثنائيًا باتخاذ ما يراه مناسبا من تدابير لحفظ الأمن والنظام العام، استناداً إلى المادة 36 من دستور 1961، التي تشكّل الأساس الدستوري للتدابير الاستثنائية في حالات الضرورة القصوى.

1.2 الأوامر القانونية المكملة: نحو صلاحيات قضائية موسعة

صدرت مجموعة من الأوامر القانونية بهدف تعزيز صلاحيات المحكمة الخاصة وتوسيع نطاقها الردعي، من أبرزها:

الأمر القانوني رقم 62.099 الصادر بتاريخ 24 أبريل 1962، والذي عدّل المادة 18 من قانون المحكمة، ونص على تطبيق المادة 463 من القانون الجنائي، مع حرمان المحكوم عليهم من الاستفادة من وقف تنفيذ العقوبة، وهو ما يعني تنفيذ الأحكام فورًا دون إمكانية التعليق أو التأجيل.

الأمر القانوني رقم 62.102 الصادر بتاريخ 27 أبريل 1962، والذي عدّل المادة 17 من القانون ذاته، مضيفًا إمكانية الحكم بمصادرة ممتلكات المحكوم عليه كليًا أو جزئيًا، استنادًا إلى المواد 37 و38 و39 من القانون الجنائي، ويشكّل هذا الإجراء تحولاً في العقوبة من مجرّد الردع الفردي إلى استهداف البيئة الحاضنة، بما في ذلك الموارد المالية للمتمردين.

1.3 التشكيلة القضائية: مزيج غير مألوف بين المدني والعسكري

حدّد المرسوم رقم 62.094 الصادر بتاريخ 9 أبريل 1962 تشكيلة المحكمة على النحو التالي:

الرئيس: محمد ولد الشيخ (الأمين العام للدفاع الوطني)

الأعضاء: الرائد ديالو، الملازم المصطفى ولد محمد السالك ، الملازم معاوية ولد الطايع 

محلف: المساعد هارونا صمبا

مفوض الحكومة: أحمد ولد أباه (المفتش العام للإدارة)

كاتب الضبط: ديوب خاليدو، يساعده الملازمين أحمدو ولد عبد الله و حمود ولد الحسين

تبرز من هذه التشكيلة الطبيعة المزدوجة للمحكمة، إذ اجتمع فيها العنصر العسكري (ضباط في الخدمة) والعنصر الإداري، مما يبتعد عن النموذج الكلاسيكي للقضاء المستقل الذي يفترض الفصل بين السلطات، لا سيما القضائية والتنفيذية.

ويُلاحظ أيضا أن المحكمة انعقدت في العاصمة نواكشوط، لا في مدينة النعمة، حيث وقعت الجريمة، ما يعكس رغبة واضحة في التحكم الكامل في إجراءات المحاكمة، بعيدًا عن التأثيرات المحلية أو الجهوية، علما بأن المحكمة ذات اختصاص وطني يشمل كافة التراب الموريتاني.

ثانيًا: بين مقتضيات السيادة وضمانات العدالة

2.1 التهم الموجهة والأحكام الصادرة

عكست لائحة التهم خطورة الوقائع المنسوبة إلى المتهمين، وجاءت على النحو التالي:

* القتل العمد مع سبق الإصرار

* المساس بأمن الدولة

* الانتماء إلى منظمة سرية غير مرخصة

* استخدام المتفجرات لزعزعة النظام العام

و أصدرت المحكمة الأحكام التالية:

الإعدام رميًا بالرصاص بحق:

سيد أحمد ولد اسويدات (القائد العسكري للخلية)

الشيخ ولد الفاظل (منفّذ الهجوم)

أماعلي ولد لحبيب (رئيس الخلية السرية في النعمة)

السجن المؤبد بحق:

اعل ولد سوله

سيد أحمد ولد أحمد باب

محمد محمود ولد أب

محمد المختار ولد عبد القادر

الغوث ولد سيد أحمد

محمد ولد العربي

الحسين ولد ميلود

أحمدو ولد محمد

أحمد سالم ولد امخيطرات

كما صدرت أحكام بالسجن تراوحت بين 5 إلى 10 سنوات بحق أعضاء آخرين في الخلية، أُدينوا بتهم تتعلّق بالتخطيط أو توفير الدعم اللوجستي للعملية المسلحة.

2.2 غياب وقف التنفيذ ومصادرة الممتلكات

من أبرز المظاهر الاستثنائية في هذه المحاكمة، غياب إمكانية وقف تنفيذ العقوبات، وهو إجراء معمول به في الأنظمة القانونية العادية كآلية لإضفاء مرونة على العقوبة. كما لجأت المحكمة إلى مصادرة ممتلكات المدانين، وهو ما يشكل مساسًا بمبدأ شخصية العقوبة، ويثير تساؤلات حول مدى مشروعية هذه الإجراءات في ظل غياب مسطرة مستقلة لمصادرة الممتلكات، أو آلية طعن تضمن رقابة قضائية فعلية.

2.3 ضمانات المحاكمة العادلة: حاضرة شكليًا، غائبة فعليًا

رغم استناد المحكمة إلى نصوص قانونية نافذة، إلا أن سير المحاكمة يكشف عن اختلالات بنيوية في ضمانات المحاكمة العادلة، أبرزها:

* غياب هيئة دفاع مستقلة وفعالة

* تغليب العنصر العسكري والإداري على التشكيلة القضائية

* غياب آلية للاستئناف أو مراجعة الأحكام

وهو ما يجعل من هذه المحكمة أقرب إلى محاكم أمن الدولة، التي تصدر أحكامًا نهائية لا تقبل الطعن، في تعارض بيّن مع المبادئ الدولية للعدالة، وعلى رأسها الحق في محاكمة عادلة أمام قاضٍ مستقل ومحايد.

خاتمة

مثّلت محاكمة المشاركين في هجوم النعمة نموذجا مبكرًا لتوظيف القضاء الاستثنائي في موريتانيا لمواجهة التهديدات الأمنية، في سياق سياسي هش ومشحون بالاستقطاب والتوتر، لكنها في الوقت ذاته، كشفت عن هشاشة العلاقة بين السلطات، وغياب الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة، بما يطرح إشكاليات قانونية ودستورية حول شرعية هذه التجربة القضائية.

و جاء دستور 20 يوليو 1991 ليطوي صفحة القضاء الاستثنائي، ويؤكد على استقلال السلطة القضائية وضمان حق كل متقاضٍ في المثول أمام قاضٍ عادي. وتفرض هذه التجربة مراجعة شاملة للعلاقة بين السلطة التنفيذية والقضاء، من خلال:

* تكريس مبدأ استقلال القضاء

* تعزيز الحق في الدفاع والطعن

و في نهاية المطاف، يظل القانون هو الحصن الأخير للدولة والمواطن، مهما اشتدت الظروف.

المصادر : 

* دستور 20 مايو 1961.

* قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1961.

* القانون رقم 61.048 الصادر بتاريخ 15 مارس 1961.

* القانون رقم 62.092 الصادر بتاريخ 7 أبريل 1962.

* القانون رقم 62.093 الصادر بتاريخ 7 أبريل 1962.

* الأمر القانوني رقم 62.099 الصادر بتاريخ 24 أبريل 1962.

* الأمر القانوني رقم 62.102 الصادر بتاريخ 27 أبريل 1962.

* المرسوم رقم 62.094 الصادر بتاريخ 9 أبريل 1962.