تقرير المرحلة التمهيدية للحوار: توافق واسع حول إصلاحات سياسية واجتماعية

في أغسطس 2025، اختُتمت المرحلة التمهيدية للحوار الوطني الشامل في موريتانيا بتقديم تقرير نهائي يحمل عنوان «منأجل موريتانيا ديمقراطية، موحدة، مزدهرة وغنية بتنوعها» إلى الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني. وقد أشرف منسق الحوار الوطني، موسى فال، على تسليم هذا التقرير الذي يُجمل خلاصة مشاورات واسعة  بين مختلف أطياف المجتمع الموريتاني . ويسلط التقرير الضوء على توافق وطني متزايد حول أهمية إطلاق حوار شامل كخيار استراتيجي لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ الممارسة الديمقراطية وتحسين نظم الحوكمة في البلاد . وفيما يلي أبرز ما جاء في التقرير من حيث السياق والدوافع، والأهداف والمحاور، ومنهجية الحوار والمشاركين، والمبادئ التوجيهية والمخاطر، والتوصيات والفرص المستقبلية.

السياق العام والدوافع لإطلاق الحوار الوطني

جاءت مبادرة الحوار الوطني استجابةً لسياق سياسي واجتماعي خاص، حيث دعا الرئيس ولد الغزواني كافة الفاعلين إلى حوار مفتوح تلبيةً لمطلب متكرّر لدى الطبقة السياسية وشرائح واسعة من المجتمع بضرورة تعزيز التوافق الوطني ونبذ الفرقة والاستقطاب الذي يهدّد تماسك البلاد . فقد عانت الساحة الموريتانية طويلًا من خلافات عميقة تجاوزت حدود التنافس السياسي المشروع، لتطال قواعد اللعبة الديمقراطية وقضايا التعايش المجتمعي. وأبرز التقرير أن استمرار هذه الوضعية يحمل مخاطر على السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي، مما يتطلب معالجتها عبر حوار بنّاء ومسؤول يتيح مناقشة القضايا وإيجاد حلول توافقية بين مختلف الأطراف . وتنسجم هذه الخطوة مع رؤية الرئيس الغزواني التي عبّر عنها في برنامجه الانتخابي «طموحي للوطن»، حيث اعتبر الحوار نهجًا استراتيجيًا لترسيخ الاستقرار وبناء دولة القانون. وينظر المراقبون إلى هذه المرحلة التمهيدية باعتبارها فرصة تاريخية لوضع أسس إصلاحات جوهرية تحصّن مستقبل البلاد وسط إقليم مضطرب بالتحديات .

الأهداف الرئيسية والمواضيع ذات الأولوية

سعى التقرير إلى بلورة رؤية وطنية مشتركة حيال أهداف الحوار ومحاوره الأساسية. وتبيّن من خلال المشاورات أن غالبية الأطراف تجمع على ثلاثة أهداف استراتيجية للحوار الوطني الشامل ، يمكن تلخيصها فيما يلي:

• تعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي بما يبدد رواسب الانقسام ويقوّي الشعور بالانتماء المشترك .

• ترسيخ النظام الديمقراطي عبر ترقية مؤسسات الحكم الرشيد وتكريس التداول السلمي على السلطة .

• تحسين أداء نظام الحوكمة ومحاربة الفساد لتحقيق إدارة أكثر شفافية وفعالية في تلبية تطلعات المواطنين .

أما المواضيع والقضايا ذات الأولوية التي اقترحت غالبية الأطراف تناولها خلال الحوار، فقد شملت سلسلة واسعة من الملفات الوطنية الحساسة ، أبرزها:

• معالجة إرث العبودية ومخلفاتها تاريخيًا واجتماعيًا، واتخاذ خطوات جادة للقضاء على أي ممارسات مرتبطة بها .

• ملف الإرث الإنساني والحقوقي المتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان العالقة عبر العقود الماضية، وسبل تسويتها لتحقيق العدالة والمصالحة .

• ترقية التنوع الثقافي والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والفئات، باعتبار التنوع مصدر ثراء لوحدة موريتانيا لا عنصر خلاف .

• إصلاح المنظومة الديمقراطية والانتخابية من خلال مراجعة الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات بما يضمن شفافية وتمثيلًا أوسع لكافة القوى .

• تمكين الفئات الهشة وتكافؤ الفرص عبر سياسات إدماجية تراعي الشباب والنساء والفئات الأقل حظًا في التنمية .

• تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد بتحسين مناخ الأعمال وترشيد الإنفاق العام وتحديث الإدارة، من أجل توجيه الموارد للتنمية المستدامة .

• إلى جانب إصلاحات قطاعية أساسية مثل تحديث نظام التعليم والنهوض بالقضاء وإصلاح السياسات العقارية وتطوير المنظومة الصحية لتحسين خدمات المواطنين .

هذه الأجندة الواسعة تعكس حجم التحديات المتراكمة، كما تعكس في الوقت ذاته طموح الموريتانيين لبناء عقد جمهوري جديد يعالج الاختلالات بجرأة ويؤسس لمستقبل أكثر عدلاً وازدهارًا.

المنهجية المعتمدة وتفاعلات الفاعلين المحليين والدوليين

اعتمدت المرحلة التمهيدية منهجية حوار تشاوري شامل وغير تقليدي، تميز بانفتاح غير مسبوق على مختلف الفاعلين بغض النظر عن أوزانهم السياسية أو خلفياتهم الاجتماعية. فقد أُتيحت الفرصة الزمنية الكافية للجميع للإدلاء بآرائهم وتقديم مقترحاتهم، ضمن استبيانات ولقاءات مباشرة أشرفت عليها منسقية الحوار . وكشف التقرير النهائي أن هذه الجهود أفضت إلى مشاركة واسعة ضمّت ما يزيد عن 1600 شخصية وطنية، و45 حزبًا سياسيًا معترفًا به أو قيد التأسيس، ونحو 80 منظمة من منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى ممثلين عن الجاليات الموريتانية في المهجر . وشملت المشاورات قادة الأحزاب من موالاة ومعارضة، ونشطاء حقوقيين ونقابيين، وشخصيات مستقلة ذات تأثير، ما ضمن تمثيلًا طيفيًا لكافة القوى الحية في المجتمع. وقد نوّه المنسق موسى فال بـانخراط المجتمع المدني والشخصيات الوطنية جنبًا إلى جنب مع السياسيين في هذه المرحلة، مؤكدًا أنه لمس تقاربًا في وجهات النظر واهتمامًا كبيرًا لدى الجميع بإنجاح الحوار .

وعلى الصعيد الخارجي، جرى إبقاء الشركاء الدوليين على اطلاع بالتقدم المحرز في هذه العملية الإصلاحية، حيث تنظر عدة جهات إقليمية ودولية إلى الحوار الوطني الموريتاني كخطوة إيجابية نحو ترسيخ الاستقرار الديمقراطي في البلاد. ومع أن إدارة الحوار ظلت موريتانية خالصة من حيث الملكية والقيادة، إلا أن الأجواء التوافقية العامة لاقت ترحيبًا ضمنيًا من قبل شركاء موريتانيا الدوليين الحريصين على نجاح نهج الحوار كضمانة لتعزيز السلم والتنمية. ويسجل المراقبون أن هذه المشاركة الواسعة والاهتمام الوطني والدولي يعكس إجماعًا نادرًا على ضرورة الحوار كوسيلة لحل القضايا العالقة وتوجيه طاقات الجميع نحو البناء الوطني .

المبادئ التوجيهية والمخاطر المحتملة

اتسمت مرحلة المشاورات التمهيدية بعدة مبادئ توجيهية حرص التقرير على إبرازها لضمان سير الحوار الوطني بطريقة ناجحة. أول هذه المبادئ الشمولية وعدم الإقصاء؛ إذ أكد الرئيس الغزواني مرارًا أن الحوار المنشود «لا يقصي أحدًا»، بل يشمل جميع الأطراف دون استثناء، بهدف معالجة القضايا الجوهرية بروح منفتحة . كما قامت منهجية التنسيق على الحياد والموضوعية في جمع وتلخيص مقترحات المشاركين، حيث اقتصر دور المنسقية على تيسير اللقاءات وتدوين الملاحظات دون تدخل في المحتوى، مع مراعاة الشفافية في عرض مختلف وجهات النظر. وشجّع هذا النهج على بناء الثقة المتبادلة بين الأطراف وتعزيز مناخ إيجابي للحوار، الأمر الذي اعتُبر أساسيًا لتأمين انخراط الجميع في المراحل المقبلة.

رغم المناخ التفاؤلي، لم يغفل التقرير الإشارة إلى المخاطر المحتملة والتحديات التي قد تعترض مسار الحوار الوطني. ففي بلد شهد استقطابات حادة في الماضي، يبقى خطر تفجير الخلافات القديمة أو ظهور تباينات جديدة قائمًا ما لم يتم التعامل بحكمة مع المواضيع الحساسة. وقد شدد التقرير على أن تجنب هذه المخاطر يستلزم التزامًا جماعيًا بضبط النفس وتغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الضيقة. كذلك حذرت بعض أطراف المعارضة – في سياق موازٍ – من التراجع عن مخرجات الحوار أو الالتفاف عليها، مطالبةً بضمانات حقيقية لتنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه. ويأتي هذا التخوّف في ظل تجارب حوار سابقة لم تحقق جميع أهدافها، مما يضع مسؤولية مضاعفة على عاتق المشاركين والسلطات لضمان أن لا يلقى هذا الحوار نفس المصير. ورغم تلك التحديات، يرى المراقبون أن ما تحقق في المرحلة التمهيدية – من وفاق مبدئي وتضييق لهوة الخلاف – يشكل عامل طمأنة مهم يقلّل من احتمالات التعثر، ويمهد الأرضية لحوار مثمر قادر على إنتاج حلول وطنية توافقية.

التوصيات النهائية والفرص المستقبلية

اختُتم التقرير النهائي بجملة من التوصيات العملية والاقتراحات التي من شأنها إنجاح المرحلة المقبلة من الحوار الوطني وضمان ترجمة نتائجه على أرض الواقع. في طليعة هذه التوصيات وضع خارطة طريق توافقية مفصلة لعملية الحوار الشامل، تتضمن إنشاء لجنة إشراف جامعة تمثّل كافة الأطراف، وتقسيم الحوار إلى ورش عمل قطاعية وفق المحاور المتفق عليها، وتعيين فرق فنية لتنسيق كل ورشة وصياغة مخرجاتها  . كما شملت التوصيات آليات لضمان تنفيذ مخرجات الحوار، من بينها: التزام علني من الرئيس الموريتاني والحكومة بتطبيق جميع التوصيات المتفق عليها، ومصادقة المشاركين عليها باعتبارها تعهدات وطنية ملزمة، بالإضافة إلى توقيع “إعلان تفاهم وطني” بين كافة القوى يُلزم الجميع باحترام نتائج الحوار . واقترح التقرير أيضًا إنشاء هيئة توافقية لمتابعة التنفيذ ووضع جدول زمني صارم لإتمام الإصلاحات المتفق عليها، إلى جانب نشر النتائج بشفافية للرأي العام وتنظيم حملات إعلامية لتوعية المواطنين بمضامين الاتفاق  . هذه الضمانات المؤسسية تهدف إلى تحصين مخرجات الحوار ومنع النكوص عنها، بما يعزز ثقة الشارع الموريتاني بأن التوصيات ستترجم إلى واقع ملموس.

ومع تسلّم الرئيس الغزواني لهذا التقرير النهائي، تكون موريتانيا قد أكملت خطوة تمهيدية بالغة الأهمية وتستعد للشروع في المرحلة الفعلية من الحوار الوطني الشامل خلال الأسابيع المقبلة . من المتوقع أن تنعقد الجلسات الكبرى برعاية مباشرة من رئيس الدولة وبمشاركة مختلف القوى السياسية والاجتماعية والفكرية، بهدف بلورة توصيات توافقية نهائيةتعالج القضايا المطروحة وتضع أسسًا متينة لمستقبل البلاد . ويُرتقب، بحسب مراقبين، أن يشكل هذا الحوار الوطني محطة مفصلية في مسار ترسيخ الاستقرار والتحديث في موريتانيا، فضلاً عن كونه فرصة ثمينة لتحقيق الإصلاح الشامل عبر مقاربة تشاركية جامعة توحّد جهود الجميع من أجل المصلحة الوطنية . وإذا ما كُللت هذه الجهود بالنجاح، فإن موريتانيا تكون قد خطت خطوة تاريخية نحو تكريس صورة الدولة الديمقراطية الموحدة المزدهرة، المعتزّة بتنوعها تمامًا كما حلم بها أبناؤها وكما جسّدها عنوان التقرير الختامي للحوار