على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وقوى عربية ودولية أخرى منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) لمنع اتساع رقعة الحرب في غزة، لتتحول لحرب إقليمية، فإن أحداث الأيام الأخيرة تشير إلى فشل ذلك. فأميركا تخشى من هكذا حرب لأنها تدرك إمكانية جرها وإيران إليها. وتسعى هذه القوى عبر الأقنية الديبلوماسية إلى تخطي التحديات عبر وضع سيناريوهات تتيح للاعبين الرئيسيين القتال بشكل مضبوط إلى حد ما.
وأفضل مثل على ذلك المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل بعد قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني. فلقد أثمرت الاتصالات التي قادتها واشنطن لتفاهم أفضى لتبادل نيران مضبوط أنهى المواجهة بين إيران وإسرائيل بشكل سريع ومرض للطرفين وبلا خسائر بشرية.
وسعت الديبلوماسية الأميركية - الأوروبية في الأيام الأخيرة لتحقيق أمر مشابه على الجبهة اللبنانية من خلال التواصل مع مسؤولين في طهران و"حزب الله" وتل أبيب. لكن الأمر كان مختلفاً في هذه المرة. فبعد اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وإسماعيل هنية في طهران، يبدو أن الأمور تتجه نحو تصعيد مفتوح.
كان خيار فتح الجبهة مع لبنان وتوجيه ضربة قوية إلى "حزب الله" مطروحاً من وزير الدفاع والقيادات العسكرية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى التي تلت هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وعملت واشنطن على ثني تل أبيب عن هذا الخيار والتركيز على جبهة غزة. لكن فتح "حزب الله" الجبهة مع إسرائيل ورفضه إغلاقها قبل وقف إطلاق النار في غزة ضمن استراتيجية "وحدة الساحات" أبقيا بوصلة القيادة العسكرية الإسرائيلية موجهة نحو لبنان، حيث كشف "حزب الله" عن قدرات عسكرية متقدمة تشكل تحدياً لهيبة الردع الإسرائيلية.
على الرغم من الخلافات الشديدة بين القوى السياسية الإسرائيلية، فإن أغلبية أحزاب اليسار واليمين والوسط تطالب الحكومة العسكرية بشن عملية عسكرية لإزالة تهديد "حزب الله" من شمال الدولة. كما أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ قيام الدولة العبرية تعتبر الحفاظ على التفوق العسكري النوعي إقليمياً أمراً أساسياً، وهذا يحتم عليها اللجوء إلى الخيار العسكري لتحقيق ذلك كلما دعت الحاجة. هذه السياسة أدت إلى اعتماد إسرائيل استراتيجية الضربات أو الحروب الاستباقية لمنع خصومها من تحقيق أي تفوق عسكري عليها، أو اقتناء أسلحة دمار شامل. الهدف الأساسي لهذه السياسة هو إشعار مواطني إسرائيل بشكل دائم بأنهم في أمان بفضل قوة "جيش الدفاع الإسرائيلي". وبناءً عليه، تهديد هيبة الردع خط أحمر لإسرائيل يدفع بقادتها العسكريين للجوء إلى خيارات صعبة في تعاملهم مع "حزب الله".
فعلى الرغم من إعلان قادة "حزب الله" بشكل متكرر عن التزامهم قواعد اشتباك قاموا هم بوضعها منذ فتح جبهة الجنوب، فإن إسرائيل لا يبدو أنها ملتزمة بها فعلاُ. وهذا دفع أمين عام "حزب الله" في كلماته الأخيرة إلى رفع مستوى التهديد لإسرائيل بأن استمرارها في استهداف مقاتليه وقادته الميدانيين والمناطق السكنية سيدفع بالحزب إلى توسيع دائرة وعمق استهدافه المواقع والمستوطنات الإسرائيلية. لكن يبدو أن القيادة الإسرائيلية تراهن على استمرار الحزب في ضبط قواعد الاشتباك لتجنب الانزلاق إلى حرب واسعة مع إسرائيل وجرَ إيران إليها. وظهر هذا جلياً بعد اغتيال إسرائيل لقادة كبار في الحزب مثل "أبو طالب" حيث جاء الرد مضبوطا رغم أنه بالشكل بدا تصعيدياً. ويبدو أن التصعيد الإسرائيلي المتدرج في مستوى اغتيالاتها وعمق غاراتها مع استمرار التزام الحزب بقواعد الاشتباك شجع تل أبيب على زيادة مستوى التصعيد، والاستمرار في هذه السياسة التي أدت إلى استهداف الضاحية واستهداف شكر، أرفع قائد عسكري للحزب يتم استهدافه.
بالنسبة إلى العديد من المراقبين، مسألة شن إسرائيل عملية كبيرة ضد "حزب الله" ليست إن كانت ستحصل، بل متى ستحدث. التوقيت مهم جداً لإسرائيل، خاصة في الظروف الحالية حيث لا تزال قواتها تنفذ عمليات ضد مقاتلي "حماس" في غزة، ولم تستعيد تل أبيب بعد أسراها. وتقوم ألوية الجيش الإسرائيلي، خاصة الاحتياط، بالتدرب جيداً لخوض حرب في لبنان لم تكن مستعدة لها.
يعتقد بعض الخبراء أن تأخير المواجهة مع حزب الله يعود إلى حاجة القيادة الإسرائيلية لتحضير جنودها جيداً لهذه المهمة. لذلك، يتم الإعلان بشكل متكرر خلال الأشهر الأخيرة عن مناورات لفرق مختلفة لحرب في لبنان. وأظهرت حرب غزة وهنا في صفوف بعض ألوية الاحتياط الإسرائيلية ما استدعى تنظيم دورات التدريب على قتال سيكون أشد حدة وشراسة في لبنان.
كما أن مسألة دعم واشنطن مهمة جداً، خاصة في السلاح والذخائر. فالحرب ضد "حزب الله" ستكون أكثر صعوبة وتعقيداً من حرب غزة ضد "حماس". وعليه، إسرائيل بحاجة لضمان تدفق السلاح الأميركي اليها في أي حرب مع "حزب الله". وسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه الأخير في الكونغرس إلى إظهار حرب إسرائيل مع محور الممانعة بقيادة إيران على أنها حرب أميركا تخوضها الدولة العبرية اليوم نيابةً عنها.
لكن اجتماعَي نتنياهو بالمرشحين الرئاسيين دونالد ترامب وكاميلا هاريس لم يكونا مشجعين. فكلاهما شدد على ضرورة انهاء حرب غزة والتوصل إلى وقف لإطلاق النار وتجنب الحرب الإقليمية الشاملة. إلا أن اجتماع نتنياهو بالرئيس جو بايدن كان مختلفاً، حيث دام 90 دقيقة. وبايدن هو الرئيس الذي يفاخر بكونه صهيونياً مسيحياً، وأظهر دعماً كبيراً لإسرائيل، ولم يعد قلقاً من فقدان دعم قوى اليسار والأميركيين العرب كما كان عندما كان مرشحاً للانتخابات المقبلة. ضعف وضع بايدن ووجود دعم قوي داخل الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون يوفران فرصة مهمة لنتنياهو والقيادة الإسرائيلية للحصول على الدعم العسكري المنشود للاستمرار في الحرب الحالية، وربما توسيعها.
إن كانت القيادة الإسرائيلية قد قررت فعلاً الدخول في حرب واسعة مع "حزب الله"، فالظروف السياسية في أميركا مع قرب الانتخابات قد تجعل الفترة التي تسبقها في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل الأفضل لشنها، خاصة آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) حيث الأحوال الجوية ملائمة جدا للعمليات الجوية والبرية. ويبدو أن القيادة العسكرية الأميركية تعي واقع الحال وضعف سيطرة واشنطن على نتنياهو، لذلك تستمر في تعزيز وجود قواتها في شرق المتوسط والمنطقة تحسباً لاتساع الحرب مع "محور الممانعة" والتي ستطال قواعدها في سوريا والعراق. كما تبقى إمكانية تدخل إيران عسكرياً قائمة خاصة بعد اغتيال هنية في عقر دارها. وقد نشهد تكراراً للهجمات الإيرانية بالصواريخ البالستية والجوالة والمسيرات كالمرة السابقة، وتدخل أميركا وحلفائها لصدها بالتعاون مع إسرائيل. وتبقى هناك قناعة سائدة لدى أغلبية المراقبين بأن طهران ستسعى إلى البقاء خارج أي مواجهة قد تُدخلها في حرب مباشرة مع أميركا، وستفعل قنواتها الديبلوماسية لتحقيق ذلك.
ويبدو أن حادثة مجدل شمس وفرت الفرصة لتل أبيب لاستفزاز "حزب الله" لردة فعل تبرر شنها عملية برية واسعة لطالما أرادتها ضد "حزب الله" لضرب بنيته التحتية العسكرية. لكن هل سيمارس "حزب الله" وإيران سياسة ضبط النفس لعدم الانجرار إلى حرب لا يريدانها؟ هذا ما سيظهر في الأيام المقبلة. ويعتقد معظم المحللين بأن نتنياهو يريد توريط أميركا في حرب مع إيران، وقد تكون عملية واسعة ضد "حزب الله" الوسيلة لتحقيق ذلك. تقف المنطقة اليوم على عتبة حرب واسعة تسعى اليها إسرائيل في هذه المرحلة، وقد يكون لبنان ساحتها الرئيسية، لكنها لن تكون محصورة فيه. وستسعى الديبلوماسية الأميركية للتوصل إلى حلول مع طهران لتجنب المواجهة بينهما. لكنها قد لا تكون ممكنة هذه المرة.
* نقلا عن "النهار العربي