الأيام لطه حسين:
أول كتاب أقرأه لعميد الأدب العربي طه حسين كان ترجمته لرواية فولتير "القَدَر" أو la destinée بالفرنسية.
وكانت لغة الدكتور جزلة ولكنها أيضا قديمة التراكيب، فتجد كثيرا من عبارات مثل موغل في كذا.. لكن الرواية جميلة وشرقية الهوى بامتياز..
قرأت له بعد ذلك جنة الشوك وحديث الأربعاء ومع المتنبي.. لكنني هنا سأقف مع كتابه الأيام.. فما زلت أذكر ذلك "الفتى" كما يدعو نفسه وأتمسّك به متعلّقا بجوّه وأحاديثه وحكاياته ونظرته إلى الدنيا التي لم يعرف هيئتها ولا ألوانها ولا أوصافها، قراءته متعة حقيقيّة حتى كأنّك رفيقه في الكتّاب أو الأزهر أو في مكاتب الجريدة أو في مقاعد الجامعة وصولا إلى باريس... لا يبارحك سؤال طيلة صفحات الكتاب: كيف لمن ولد ضريرا لا يعرف معنى الضوء من العتمة ولا الأسود من الأبيض ولا الربيع من الصيف، كيف ينظر وأيّ قيد وسجن ووحدة هي ذاتُه، كيف لرهين هذا المحبس أن يصف لنا الدنيا ويسكننا ويرينا ذكرياته؟
هذا رجلٌ يستحقّ أن تحترمه وتكبره وتنحني لحلمه وجرأته وجهده ليعيش فوق الأرض لا خلف العمى.. شقّ من خلال العتمة دربا لم يطمح له المبصرون القادرون المالكون جماع أمرهم، مهما اختلفنا معه أو صدمنا شيء من آرائه أو حتى لو اعتبرنا شيئا من نظراته في الشعر أو الدين خطأ بعيدا عمّا نرضاه ونألفه، فلا نملك - ولا يجوز لنا- سوى هذا الاحترام والإكبار لهذه القامة الباسقة.
إنها رواية في المقام الأول عن العلم، قصة حياة عالم بل علامة، تتحدث عن النفس التواقة للعلم والترقي وما تعانيه في الحياة من كدح وشقاء وعناء، صارعته الظروف السيئة والآفة في عينيه والفقر، بل صارعته نفسه وكرامته وجرأته.
لقد كان رجلا وحيداً يحارب في أكثر من ميدان، رجلاً يدين بالفضل للكثيرين ولا ينكر، ولم يُنسه ما وصل إليه من علو في المقام وتأثير في الواقع، ما عاناه ومَن يدين لهم بالفضل، إنها رواية لا تتحدث عن قصة حياة شخص بل قصة حياة أمة وحقبة من التاريخ عانت من الصراعات السياسية والراديكالية، والريف والشعب المعزول عن كل هذا وما فيه من خرافات وجهل وتخلف أودى بعيني هذا الرجل، ثم تنتقل لتتحدث عن الحياة في ربوع الأزهر بعد أن أرانا العلم في ربوع القرية البسيطة، وما أروع الوصف والتوضيح من رجل تتوق نفسه للعالَم بأشكاله وألوانه.
وهنا يأتي ذكر الشيخ الشنقيطي، الذي كانت له حلقة في الجامع الأزهر.. الشيخ محمد محمود ولد التلاميذ رحمه الله ثم نسافر مع صاحبنا إلى أوروبا ونرى الفارق في تقدير العلم وصعوبة تحصيله وقصة كفاحه في تعلم اللغات وفي سبقه للعديد من الرتب والإنجازات التي لم يسبقه إليها غيره، بعد أن كنا رأيناه أصلاً شاهداً على بدايات عصر الجامعة في مصر وأعطانا صورة عن تلك البدايات ونجاور في قصته شخصيات بارزة ومؤثرة في التاريخ المعاصر، بل وفي التاريخ القديم حيث تتوازي قصته مع أبي العلاء وما تؤول إليه حياته في النهاية من صدام مع البلاط الحاكم.
كل هذا في لغة طه حسين الشعرية البليغة المتمكنة الرائعة الرقيقة التي تفطر القلوب في وصف لحظات الألم والتي ترتقي بالنفس لسموها ورقيها