محمد فال ولد بلال يكتب: عصرنة نواكشوط .. بين الإنسان والحيوان

 
عندما أعلن عن 50 مليار أوقية مخصصة لتحديث وعصرنة نواكشوط، خرجتُ أتفقد أحوال المدينة. انطلقتُ من دوار "أبراد" وذهبتُ إلى آخر نقطة في "ابيكات" مرورا بالميناء والسبخة والدار البيضاء التي تتعرض لكوارث صحية وبيئية مزمنة. وفي العودة مررتُ بالترحيل و "ملّح"، و"فيراج الديك"، ثم شارع "كورونا" وعين الطلح. 
وخلال الجولة سررت برؤية منشآت جديدة مثل جسر  "باماكو"، وجسر "الحي الساكن"، وتقاطع "مدريد"، ومقرات جديدة لبعض الوزارات ومؤسسات الدولة، مثل: المجلس الدستوري، والمحكمة العليا، ووزارة الدفاع، إلخ،،، ولكني صدمت عندما
خرجتُ من "كرش البطرون" في تفرغ زينة ودخلتُ "سينكيم" و"سيزيم". شعرتُ أن نواكشوط ليست عاصمة واحدة، بل عواصم متعددة بتعدد التضاريس والتاريخ والجغرافيا والطبقات والفئات ومستويات المعيشة، وكذا الأحوال فيها مختلفة ومتضاربة بتضارب المصالح والمطالب والأولويات. من جهة، مدينة نائمة وكسولة, فيها طرق معبدة، وشوارع واسعة، وفِلل فاخرة، وسيارات فارهة، ومحلات تجارية متوهجة.. ومن جهة أخرى، مدينة أكواخ و أَخْبِيَة وعروش فقيرة، تكافح وتكابد من أجل لقمة العيش. فيها أزقة ضيقة، واختناقات مرورية، وكثافة سكانية وتلوث.
وفي الجولة أيضا تفاجأتُ بكثرة الحيوانات وكثافة دورها وانخراطها في توفير ما تيسر من مقومات الحياة. لاحظتُ أن مزاياها ومنافعها تكاد تكون أكثر من مزايا ومنافع الإنسان. دهِشتُ لما رأيتُ. هنا حميرٌ تحمل براميل صفراء توفر مياه الشرب، لولاها لزَهَقَ الناس عطشا. وهناك خيولٌ تجر عربات تنقل الأشخاص، وتحمل الأمتعة والأثاث، لولاها لما وصلت المواد الغذائية إلى محلّات البيع بالتجزئة،  ولما وصل "باسي" و"كسكس" و"العيش" إلى شوارع "تفرغ زينه". وهنالك حيوانات أليفة تجود بلحومها وألبانها وجلودها، وهي تذبح وتسلخ على أرصفة الطرقات. أدركتُ أن الحيوانات ليست فقط مكوِّنا  أساسيًا من مكونات العاصمة تقدم خدمات جليلة، بل أكثر من ذلك تساهم في مكافحة الجوع والعطش والفقر والبطالة. رأيت عائلات بأكملها تعيش على كتِفِ حمار أو حصان أو ماعز..
أمام هذا المشهد تذكرتُ رواية مشهورة للكاتب الإنجليزي جورج أورويل (George Orwell) بعنوان "حديقة الحيوانات" تتكلم عن ثورة تقوم بها الحيوانات ضد الإنسان. 
قلتُ في نفسي ماذا لو اجتمعت حيوانات نواكشوط واتخذت قرارا بالمطالبة بنصيبها من هذا الغلاف المالي الكبير (50 مليار)، أو هددت بالقطيعة مع الآدميين لتتولى هي بنفسها مهمة عصرنة المدينة؟
وفي الليل الموالي رأيتُ فيما يرى النائم أن الاجتماع انعقد بالفعل وبمشاركة الجميع: الخيل والبِغال والحمير والإبل والبقر والغنم والدواجن و البَبَّغاوَات والفئران والذباب، والباعوض، إلخ،،، فإذا بالحمير تهدد برفض نقل البراميل الصفراء. والخيل تجلجل وتهدد بالإضراب عن جر العربات وحمل الأكياس والبضائع والأثاث. واختلط هذا برُغاء الإبل وخُوار البقر و ثُغاء الغنم وصياح الديوك مُهَدِّدَة برفض ذبحها وسلخها وعرض لحومها في الهواء المغبِر.
ارتفعت الأصوات داخل الحديقة بشعارات مشكِكة في إدارة الإنسان ومطالِبة بإنصاف الحيوان. تحرّك الجميع إلاّ الفئران والذباب والقِطط التي اعتادت العيش على الفضلات وأكوام القمامة، والببغاوات التي نشأت على التملق والتقليد. جرى نقاش مستفيض انتهى بإعلان التعبِئة العامة والتلويح بالاستغناء عن الآدميين. قال الحضور: "وهل نأمَنُ الآدميين على هذا المشروع إلا كما أمناهم على مئات المشاريع من قبل. "فاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ". أليسوا هم من جعلوا العاصمة مدينة تعيسة بلا روح وبلا هوية، عبارة عن كومة من الأسمنت  والخشب؟ صحيح أنها عاصمتنا جميعا، ولكنها لا تجمعنا ولا تساوي بيننا. مشكلتنا، نحن الحيوانات، ليست مشكلة تحديث أو عصرنة، بل مشكلة حياة وبقاء. لا نحلم بوسائل الراحة والترفيه، أكثر مما نحلم بالعلف والدواء".
وفي ختام الجلسة تقرر بالإجماع طرد الذباب والباعوض والفِئران والببغاوات المناوئة للحركة. وبدأت الحيوانات الجادّة تنظم صفوفها، حيث جلب كل منها مهاراته الخاصة ونقاط قوته. توقفت الخيل والحمير عن نقل المياه والمؤن والأشخاص. ورفضت الإبل والأبقار والغنم والدواجن إعطاء لحومها، وهددت بإطلاق ما لديها من فايروسات: جنون البقر، وإنفلونزا الطيور، وكورونا، والملاريا، إلخ،،، 
وعلى هذا التوتر والاضطراب، استيقظتُ فجأة، و قلتُ: "أعوذُ بالله من الشيطان ومن شر ما رأيتُ، ونفَثتُ عن يساري ثلاث مرات".
محمد فال ولد بَلّال