حصري (الجديد نيوز)
"رمضان يرتفع بالبشرية إلى نقاء روحي يشبه طهارة الملائكة" فقرة من حديث ضيفنا عن رمضان.
من عالم الذرة والخوارزميات والمعادلات والأرقام المعقدة في علم الفيزياء؛ بدأ ضيفنا مسيرته في أرقى الجامعات الفرنسية.
شاعرنا هذه المرة جمع بين الكلمة الساحرة والأخيلة المتدفقة والإحساس المرهف وعالم الفيزياء المعقد.
خلد اسمه لامعا في أنبل غرض شعري "المديح النبوي" وحصد جوائز عديدة وطنية ودولية.
في المقابلة التالية تتعرفون على زوايا رؤيته للشهر الكريم.
الجديد نيوزالجديد نيوزشهر رمضان شهر الصبر والتشبه بالملائكة؛ فماذا تعني لكم هذه الصفات؟
شهر رمضان موسم يجمع الكثير من الفضائل والأجواء الربانية التي ترتفع بالبشرية إلى نقاء روحي وصفاء وجداني يشبه النقاء الملائكي. ولعل من أهم المميزات المرتبطة بهذا الشهر هو كونه فرصة للعزوف عن كثير من المشاغل المادية والانشغلات بتربية النفس وتزكية الروح والارتفاع بها بعيدا عن غرائز الجثمان. فالامتحان الرمضاني ـ إذن ـ روحاني بامتياز، يأتي على وقع العزيمة ونكهة الاصطبار.
الجديد نيوزشهر رمضان شهر المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي.فكيف تستلهمون هذه الأمجاد في أشعاركم؟
أعتقد أن موافقة كثير من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي للموسم الرمضاني تأسيسلدلالة عميقة يجب اعتبارها. وهي أن الشهر على اختلاف ظروفه عن الأيام الأخرى فهو ليس مناسبة للركون إلى الكسل بل هو استمرار لعجلة الحياة ومواصلة لكل تفاصيلها.وهذا على عكس ما يلاحظ للأسف من تصرفات بعض الناس في هذا الشهر إذ يكاد يتباطأ أداؤهم ويقل نشاطهم.
الجديد نيوز شهر مضان شهر المغفرة والعفة والطهارة والنقاء والسمو. فهل يمكن توظيف الشعر لخدمة هذه الصفات النبيلة؟
الشعر أولا وآخرا أداة تعبير جادة، مكرسة طبعا لخدمة القيم العظيمة، قال الشاعر : ولولا خصال سنها الشعر ما درى بغاة العلا من أين تؤتى المكارم. ويجب أن يبقى متقيدا بهذه المعاني العظيمة، إلا أنه على ذلك يجب أن يهتم بالتعبير عنها بأساليب مميزة، مما يضمن شاعرية المحتوى وجاذبية الأسلوب.
الجديد نيوز يرى كثيرون أن الصوم في المدن، أصبح موسما للإسراف والتبذير والمباهاة. ل بإمكان الشعر محاربة هذه الظواهر المنافية لأخلاقيات الشهر الفضيل؟
لا ريب أنه يمكن للشعر أن يقدم النصائح ويسن الفضائل، وبالتالي يمكنه أن يؤدي دورا في مثل هذا السياق إلى حد ما، ولكن تقديم النصائح يتطلب في أحيان كثيرة المباشرة المفرطة لكون ذلك هو الأولى في المقام قيد الاعتبار.وهذا قد يخل بالرسالة الجمالية للكتابة الشعرية.
أعتقد أن الشعر يجب أن يبقى ملازما لمتطلباته الإبداعية وخواصه التقنية،ويجدر به أن ينأى إلى حد ما عن الأغراض التعليمية البحتة، ولذلك تصنف الأنظام أو الأراجيز في رف مختلف لضرورة مغايرة الشاعرية للأداء المباشر.
الجديد نيوز: الشعر يسمو بالنفوس ورمضان يطهرها. أيُّ دور للشعر في موسم رمضان ؟
إن قدسية هذا الشهر تضفي بنزعة صوفية على الجو الشاعري. وبما أن الشعر أداة للتعبير فهو لا شك يسهم في الاحتفاظ بذكريات الشهر الفضيل ويعكس حالة الكاتب الروحانية في هذا الموسم الجليل بأدق التفاصيل وأجمل الصور والتعابير.
الجديد نيوز ذكريات كثيرة نسمعها عن صيام رمضان في الماضي وطقوس الإفطار.ما ذا بقي عالقا في الذاكرة عنها؟
لا شك أن لهذا الشهر طقوسا عامة وأجواء خاصة يشهدها الجميع. إلا أن ظروف الصيام تختلف من بلد إلى آخر. فمثلا في بعض المناطق من العالم قد يكون الصيام لساعات طويلة جدا مقارنة بالصيام في مناطق جغرافية أخرى. أذكر مثلا أن طوال إقامتي في فرنسا أيام الدراسة كانت المدة الفاصلة بين الإفطار والإمساك لا تتجاوز ست ساعات، فيها يعد الصائم إفطاره ويؤدي نوافله، وفيها يحاول استراق النوم ليقوى على مجابهة العمل لليوم الموالي، مما يجعله في حالة استثنائية مقارنة بالجو العام والسياق المحيط. وهذا مما لا تخطئه أذهان المغتربين كذكرى راسخة في الحسبان،وعصية على النسيان.
الجديد نيوزيعتبر الشهر الكريم مجالا خصبا للمدائح النبوية وأشعار التوسل والابتهالات. فهل من نماذج مختصرة من شعركم؟
تعتبر الابتهالات وأشعار التوسل بالإضافة إلى المديح النبوي من أهم الأغراض التي لاصقت الوعي الأدبي للمجتمع الموريتاني، ولحضور هذه الأغراض في يومياتهم تجليات، منها ما هو شعري ومنها ما هو غنائي إن جاز الفصل بينهما في هذا الإطار. ولعل من أهم الاحتفاءات التي حظي بها غرض المديح النبوي مثلا هو تخصيص برنامج له في الموسم الرمضاني، تتبارى فيه المواهب الشعرية وتكتشف فيه الأقلام الجادة والتجارب الواعدة. و أعني هنا برنامج شاعر الرسول الذي تُبث وقائعهعلى التلفزيون الوطني طوال رمضان. وتشكل عودة البرنامج للواجهة بعد غياب دام عدة سنوات بشارة سارة للذائقة الموريتانية و إيذانا بمد متواصل من الشعراء القادمين بقوة لإثراء الساحة بقدرات إبداعية ومواهب تستحق الاحتفاء.
و لي تجربة شخصية مع هذا البرنامج، فقد ساهم إلى حد كبير في توجيه مساري الشعري، إذ أتاحت لي المسابقة أول احتكاك مباشر بنقاد موريتانيين لهم باع طولى ومعرفة سباقة في الكتابة الشعرية خصوصا والأنساق الأدبية عموما.
وكنموذج من إنتاجي الشعر يفي هذا المجال أقترح مقطعا من قصيدة ذات مساء التي أعتبرها أول ما اعتمدت في غرض المديح النبوي الشريف، وقد تم نشر القصيدة سنة ٢٠١٠ إثر فوزها بجائزة حراء الشعرية الكبرى لفئة الشباب، بالتوازي مع فوز صديقي الشاعر القاضي محمد عينينه عن فئة الكبار.
وهنا المقطع :
لم تبسم الأيام إلا مرة
إذ كان فيها لون كل صفاء
إذ في خطا جبريل وقع هداية
تحكي نزيف الضوء في الأنحاء
لتبث أحلام السعادة حولها
وتزف آمالا إلى البؤساء
ما زلت أذكر للسلام حكاية
إذ كان يعبر قامة الصحراء
يطوي مداءاتِ الحياة ويرتمي
في عمقِها متوسِّدا بسماء
فكأنه يرتاح بين جوانحي
وكأنه في مهجتي ودمائي
كم هاجرت ذكراه تسكب ظلها
تنثال بين موائد الفقراء
لا يعرف النسيان إلا مَضجعي
لكنني لم أنسَ ذات مساء..
إذ للجمال الغض أعذب قِصة
أنغامها تهفو إلى الشعراء
مهما يكن للنخل من ترنيمة
فالرمل لا ينسى حديث الماء
وأما النموذج الثاني فأختار أن يكون مقطعا من نص مديحي آخر بعنوان "رسوم على الرمل"
يَا ذَاتُ إنْ تَتَمَنَّيْ هَتْكَ أَوْرِدَتِي
للرِيحِ فانْتَهِبِي الرُؤْيَا على عَجَلِ
ها قد طغى الماء واجتاح النسيم يدي
فأي مرتفع يأويك أو جبلِ
تَنَفَّسَ اللَّيْلُ أَوْجَاعِي فَأَيْقَظَهَا
أَوْرَادَ وَجْدٍ عَلى أحْضَان مُبْتَهِلِ
ما زِلتُ أَذْكُرُ لِلأَيَّامِ نَكْهَتَهَاَ
تَبْتَلُّ بالضَّوْءِ نَشْوَى أَيَّمَا بَلَلِ
الذِّكرَياتُ عَلَى كَفٍّ مُثَلَّجَةٌ
وَالمَاءُ يَضْحَكُ والأحلامُ مِن عَسَلِ
بَيْنَا ..وكُلِّ يَدٍ لِلأَرْضِ دَامِيَةٌ
تَشْكُو وقافِلَةُ الأَنْوَارِ لَمْ تَصِلِ
تُدْلِي إِلى المَلإِ الأعْلى بِقِصَّتِهَا
شَوْهَاءَ تَرْفَعُ كَفَّيْها على مَهَلِ
لَها جَناحانِ والأنْخَابُ تَائِهَةٌ
والرُّوحُ تَذْبُلُ والأَنْفَاسُ في وَجَلِ
إذْ أشْرَقَ النُّورُ في كُنْهِ الحَيَاةِ فَيَا ...
وَ يَا لَهَا وهْيَ في أَنْفَاسِهَا الأُوَلِ
وعانَقَتْ سِدْرَةُ العَلْيَاءِ سِدْرَتَهَا
فابْتَلَّتْ الشَّفَةُ الجَدْبَاءُ بِالقُبَلِ
فللخَمائِلِ – سَكْرَى – مَا يَمِيدُ بِهَا
ولِلْبَسَاتينِ ما تَخْتارُ مِنْ حُلَلِ
وللمَساءِ تَرَاوِيحٌ إلى أُفُقٍ
بالنُّورِ والوَهَجِ القُدْسِيِّ مُكْتَحِلِ
الجديد نيوز من المعلوم أن شياطين الجن تصفد في شهر رمضان. فماذا عن شياطين الشعر؟
إن ربط الشعر بشياطين يلهمونه أو يلقون به على الشعراء،يعتبر بالنسبة لي موضوعا شيقا لما يحاك حوله من قصص وحوادث لا تخلو من متعة وطرافة، وإن آثر بعض الشعراء عزوها إلى الأساطير والخرافة.وبما أن الشيطان قد يطلق على كل خفي على النظر، عصي على الإحساس مفلت من الإدراك، -وهذه هي طبيعة العملية الإبداعية تماما-فإني أستسمح في تحوير شيطان الشعر إلى العملية الخفية وراء الإلهام الشعري. وهي بذلك غير مقيدة بل شديدة الانطلاق في هذا الشهر ولكن بروحانية جد سامية ومعنويات غاية في العلو.