ضيفنا يرى أن خطاب الكراهية لا يولد من فراغ، فهو يعود لأزمة ثقة بنيوية في المجتمع؛ وقد وجد تربة خصبة له من خلال غياب العدالة وضعف الحماية القانونية وتفاقم الفجوات الاجتماعية.
وأكد أن القيم الجامعة ليست قادرة وحدها على لجم التفاوتات المتراكمة، والتعايش يواجه اختلالا بنيويا مع تعدد الخطابات.. ويرى أن المظالم تحولت إلى ورقة للمتاجرة السياسية، وأصبحنا نعيش شعبوية طافحة، وانفلاتا إعلاميا بسبب ثورة التواصل الاجتماعي التي لا رقيب عليها.
وقال إن غياب ميثاق وطني إعلامي جامع للممارسات الإعلامية، والضعف في جانبي التكوين المهني، والبعد الأخلاقي لدى بعض الإعلاميين، جعله أداة تفجير بدل أن يكون وسيلة بناء.
ضيفنا كاتب ومحلل سياسي خبير في قضايا الحكامة الرشيدة والعدالة الاجتماعية ومواضيع التحدي التنموي بالبلاد.
"الجديد نيوز" يستضيف لكم الإعلامي والمحلل السياسي والخبير التربوي: محمد الأمين ولد الداه.
نص المقابلة
الجديد نيوز: تشهد مواقع التواصل -حاليًا- ارتفاعًا في منسوب الكراهية بموريتانيا، برأيكم ما هي الأسباب؟
خطاب الكراهية لا يُولد من فراغ، بل يعكس أزمة ثقة بنيوية داخل المجتمع، ويجد تربة خصبة كلما غابت العدالة وضعفت الحماية القانونية وتفاقمت الفجوات الاجتماعية.
إن ما نشهده اليوم من تصاعد في العنف اللفظي وعبارات السب والشتم والتحقير تجاه الأفراد والمكونات، ليس تعبيرًا عفويًا فقط، بل في كثير من حالاته خطاب مُدار ومقصود ومُوجه من طرف سياسيين، باعتباره ورقة ضغط يمكن توظيفها لتحقيق مكاسب في الحوار السياسي المرتقب.
وكنت قد عبّرت سابقًا أن هذا الخطاب يعكس مظهرًا من مظاهر هدر الزمن السياسي، الذي مارسته النخب عندما لم تستغل جو الإجماع والتهدئة السياسية التي أتاحها الرئيس غزواني.
الجديد نيوز: موريتانيا بلد متعدد الأعراق، ولكن الدين والعادات والتسامح ثلاثية تحكم التعايش فيه، ماذا تغير؟
ما تغيّر هو أن القيم الجامعة ليست قادرة وحدها على لجم التفاوتات المتراكمة. التعايش اليوم يواجه اختلالًا بنيويًا لم يُعالج بعد، رغم كثرة الخطابات.
لقد حوّلنا المظالم إلى ورقة مربحة للمتاجرة السياسية، وعلى مدى سلط متعاقبة، استُخدمت هذه القضايا كوسيلة مقايضة، يُوزَن السياسي فيها بحسب درجة حدة خطابه حولها.
ما تغيّر أيضًا هو شعبوية طافحة، وانفلات إعلامي بسبب ثورة التواصل الاجتماعي التي لا رقيب عليها.
ومع دخولنا عصر الثورة الرقمية، أصبحت المعركة تُدار في العقول لا فقط على الأرض، حيث الفتنة الرقمية تُدار من الخارج، لكنها تجد هشاشتها في الداخل. ضعف مناعتنا الاجتماعية، والحضور الطاغي للفئوية، وبيئة ملتهبة غنية بالثروات كلها تُغذّي هذا المسار وتُعقّده.
الجديد نيوز:يرى البعض أن الفوضى في ضبط المشهد الإعلامي سبب هام في ظهور هذه الحملات، ما رأيكم؟
بالفعل، الإعلام –خصوصًا الإلكتروني ومواقع التواصل– تحول إلى ساحة مفتوحة بلا ضوابط، مما فسح المجال أمام أصوات التطرف والعنصرية لتعلو على أصوات التعقل والمسؤولية.
غياب ميثاق وطني جامع للممارسات الإعلامية، وضعف التكوين الأخلاقي والمهني لدى بعض الفاعلين، جعل من الإعلام أداة تفجير بدل أن يكون وسيلة بناء.
وفوق ذلك، هناك فراغ تشريعي واضح في ما يتعلق بتنظيم فضاء التواصل الاجتماعي، مما يترك الباب مفتوحًا أمام الفوضى الرقمية والانفلات الخطابي. ومع ذلك، لا يمكن تحميل الإعلام وحده المسؤولية، فهو في النهاية مرآة لأزمات أعمق تحتاج إلى معالجة شاملة.
الجديد نيوز:الخطاب السياسي للبعض يشجع على ركوب هذه الموجة، ما هي طرق التصدي لذلك؟
حين يضعف المشروع الوطني الجامع، تتحول الساحة إلى تنافس هويات ضيقة، ويصبح الخطاب السياسي في كثير من الأحيان أداة لتغذية الاحتقان بدل تهدئته.
بعض الفاعلين السياسيين يلجأون إلى دغدغة العواطف والهويات المظلومة لتحقيق مكاسب آنية، دون اعتبار للعواقب.
التصدي لذلك يمر عبر إعادة الاعتبار للأخلاق السياسية، وترسيخ ميثاق وطني جامع يُجرّم التحريض والكراهية بكل أشكالها، مع تشجيع خطاب الإنصاف والاعتراف المتبادل.
كما أن الأحزاب السياسية مطالَبة اليوم بالارتقاء بخطابها، وبناء قواعدها على أساس المواطنة، لا على أساس الولاء الإثني أو الجهوي.
الجديد نيوز:نحن في بلد ديمقراطي، والكل سواسية أمام القانون، فما الذي يجعل البعض هنا يركن لخطابات كراهية مقيتة؟
عدم تطبيق القوانين بصرامة، إلى جانب غياب المحاسبة الفعلية للمفسدين، وضعف مستوى التعليم والوعي الحقوقي، كل ذلك يُضعف ثقة المواطن في المؤسسات، ويُشجّع على البحث عن بدائل غير عقلانية للتعبير عن الغضب.
كما أن الحضور الطاغي للقبلية والتراتبية الاجتماعية يكرّس الإقصاء واللامساواة، ويفسح المجال أمام خطابات الكراهية لتجد لها أرضًا خصبة بين الفئات المهمّشة والمحبطة.
حين يشعر البعض أنهم خارج معادلة الإنصاف، أو أن القانون لا يحميهم بنفس الدرجة التي يحمي بها غيرهم، يصبح خطاب الكراهية ملاذًا، ولو كان خاطئًا أو مدمرًا. لذلك، فالحل لا يكون بالتخويف من هذا الخطاب فقط، بل بتجفيف منابعه من خلال سياسات فعالة للعدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية.
الجديد نيوز: الفقر والتهميش سببان رئيسيان في عدم الإحساس بالمساواة، مما يوفر بيئة لخطابات الكراهية. ما الحل برأيكم؟
الحل يبدأ من الاعتراف بأن التهميش ليس قَدَرًا، بل نتاج سياسات عقيمة أو منحازة، وبالتالي يمكن تغييره بإرادة وطنية جادة. لا بد من تبنّي نموذج تنموي أكثر عدالة وشمولًا، يضع في قلب أولوياته الفئات التي عانت تاريخيًا من الحرمان.
مطلوب إعادة توجيه الموارد، وتكريس مبدأ تكافؤ الفرص، وتعزيز حضور الدولة في الهامش، ليس فقط بالخدمات، بل بالاحترام أيضًا. فالإحساس بالمواطنة لا يُبنى في الخطابات، بل يُصنع في المدرسة، والمستشفى، ومكتب الحالة المدنية، وسوق الشغل، والتعيينات، ورخص الصيد والمعادن، وكل ما يتعلق بتوزيع الثروة.
الجديد نيوز: الحوار المترقب تُعلّق عليه آمال كبيرة في حل مشاكل البلد، ومنها القضاء على تلك الخطابات. ما هي رؤيتكم الاستشرافية لنتائجه؟
نجاح الحوار مرهون بصدق النيات ووضوح الأولويات. لا ينبغي أن يكون مجرد مناسبة لتقاسم النفوذ أو توزيع المواقع، بل لحظة تأسيسية تعيد بناء الثقة بين المكونات الوطنية، وتُعلي من شأن الإنصاف على حساب التذاكي السياسي.
لكن الحقيقة، وبالنظر إلى ما جرى من أحداث في الأيام الماضية، وما طُرح في هذا اللقاء من معطيات، فإن ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى ليس فقط حوارًا سياسيًا، بل حوارًا اجتماعيًا ومجتمعيًا صادقًا، يلامس جوهر التعايش الوطني ويمس جذور الإشكالات العميقة.
وما لم يسعَ الحوار السياسي إلى تبنّي عقد أخلاقي جديد يُعزز قيم المواطنة ويُؤسس لعدالة اجتماعية حقيقية، فسيبقى مجرد حوار شكلي لا يُحدث تحولًا حقيقيًا، بل يُعيد إنتاج الأزمة بأدوات مختلفة.