المواطنة والهوية.. والدولة الوطنية

 د. السيد ولد أباه / أكاديمي موريتاني 

 

حسناً فعلت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بإشراف رئيسها الألمعي الدكتور خليفة الظاهري، أن اختارت عنواناً لمؤتمرها الثالث حول الدراسات الإسلامية موضوع «المواطنة والهوية وقيم العيش المشترك»، في سياق عربي ودولي تُطرح فيه بقوة هذه الإشكالية الفكرية والمجتمعية المحورية.

لا نحتاج للإشارة إلى وضع الدولة الوطنية في كثير من الساحات العربية التي تعيش منذ سنوات انهيارَ الكيان الوطني المركزي، لأسباب عديدة ليس هنا مجال التعرض لها، لكن لا بد من التنبيه إلى خطورة الخطاب الأيديولوجي المتطرف الذي يتنكر، بذريعة دينية واهية، لقيم المواطنة المدنية الحديثة. ذلك ما بيّنه معالي العلامة عبدالله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى أبوظبي للسلم، في كلمة افتتاحية أصَّل فيها لقيم المواطنة من منظور إسلامي رصين ومعمق.
 لقد نجح مؤتمر الجامعة في إبراز المسوغات النظرية والعقدية القوية لفكرة المواطنة التي هي الأفق الحديث الذي لا محيد عنه للمجتمعات العربية المسلمة في العصر الحاضر.كما وُفِّق المؤتمرُ في التعرض للرهانات والإشكاليات المعقدة التي يطرحها موضوع الهوية في الواقع الحالي، وهي في نظرنا تتعلق بتغير جوهري في طبيعة السياسة في السياق الراهن.
لم تعد السياسة كما تصورها أرسطو في العصر اليوناني الكلاسيكي تدبيراً للفضيلة المدنية، ولا هي نمط من المدينة الفاضلة على الطريقة الفارابية، ومن الجلي أنها لم تعد تستوعب كامل المنظور السيادي للدائرة العمومية المشتركة، كما كان يقول هوبز وروسو في عصور التنوير.
في الغرب طُرح موضوع الهوية خلال العقود الأخيرة في ثلاثة اتجاهات متمايزة كبرى هي: الانفصام المتزايد بين نموذج الدولة السياسية والتركيبة المجتمعية التعددية التي لم يعد من الممكن احتواؤها في منظومة قانونية وإجرائية مندمجة وأحادية، والانزياح المتنامي بين آلية التمثيل الديمقراطي والقيم الليبرالية التي شكلت تاريخياً المضمون المعياري للممارسة الديمقراطية، وبروز التحديات النوعية التي تطرحها ديناميكية العولمة الاقتصادية والتقنية على اعتبارات الهوية الوطنية، بما انعكس بحدة في الخطاب السياسي في الديمقراطيات الغربية.
 قد لا تهمنا كثيراً هذه الرهانات الخارجية الغريبة عن واقعنا في العالم العربي والإسلامي، لكن لا بد من التنويه هنا إلى ضرورة استنتاج العبر والدروس المناسبة من التجارب العالمية حول المواطنة والهوية. ومن هذه التجارب ما يتعلق بضرورة بناء سياسات هوياتية مندمجة تتجاوز الأطر القانونية الإجرائية التي تختزل المواطنة في محددات الانتماء السياسي والحقوقي، مع إهمال المقومات الثقافية والمجتمعية العميقة التي هي أرضية الانتماء الصلب للمجموعة الوطنية المتلاحمة والمتضامنة.
ومنها أيضاً ما يتعلق بقيم العيش المشترك التي ركزت عليها الندوة، وهي في عمومها تتجاوز الحيز الوطني الضيق لتستكشف معايير العلاقة بين الأفراد والمجتمعات في عالم تعددي متنوع، لا بد أن تحكمه أخلاقيات التسامح والانفتاح والأخوّة الإنسانية.
لقد كان الفيلسوف الألماني كانط سباقاً إلى رصد نمط الارتباط الممكن بين القانون المدني للدولة الذي يتأسس على العقد الاجتماعي والإرادة المشتركة للمواطنين والقانون الدولي الضابط للدائرة الإنسانية الكونية الواسعة، وهو ما سماه بالقانون الكوسمبولوتي، وقد عرّفه بواجب التصرف مع الآخر وفق منطق الشراكة والتعاون بدلاً من العنف والإقصاء، وجسّده في أخلاقيات الضيافة والزيارة.
بيد أن هذه الثنائية تطرح اليوم في سياق مغاير، من أبرز سماته تراجع منظومة القانون الكوني الذي شهد في العقود الماضية توسعاً ملحوظاً، نتيجةً لتنامي النزعات القومية الحمائية والانكفائية الساخطة على حركية العولمة والتبادل الإنساني والتجاري الحر. 
 والسؤال المطروح في الوقت الحاضر هو: هل تعبّر هذه النزعات الوطنية الانعزالية بالفعل عن توجه مستقبلي سيؤدي إلى كبح ديناميكية العولمة التي هي المحطة الراهنة من مسار الحداثة الإنسانية، أم أنها مجرد ردود فعل ظرفية على واقع جارف لا سبيل للجمه ولا إيقافه؟مع التأكيد على أن الدولة الوطنية لا تزال هي الأفق السياسي المتاح للمجتمعات البشرية، وهي بالنسبة للعرب حاجة موضوعية بادية الوجاهة والنجاعة، لا بد من التنويه إلى أنها لم تعد تستوعب كامل الرهانات المجتمعية، ومن ثم أصبحت قيم العيش المشترك بين بني البشر، على اختلافهم الديني والثقافي تحدياً كبيراً في الوقت الحاضر. والواقع أن الحركية الفلسفية للحداثة طرحت مبكراً هذه الارتباطات الإشكالية بين فكرة الإنسانية الكونية، من حيث هي النقطة المرجعية لمنظومة التنوير العقلاني والمجتمعي، وبين نموذج الدولة الوطنية الذي هو إطار الحقوق والحريات العينية وإن كان محدوداً وضيقاً. وقد ظهر من البيِّن أنه لا بد من الجمع اليوم بين اعتبارات المواطنة وقيم التعايش السلمي والتضامن الإنساني.
ذلك هو الدرس الأساسي الذي نبه إليه مؤتمر أبوظبي من خلال أوراقه الافتتاحية الرصينة وجلساته العلمية الرفيعة ونقاشاته الجادة، استلهاماً لتجربة بلد جعل من التسامح والأخوّة الإنسانية جوهر سياساته العمومية وخياراته الديبلوماسية والفكرية.