حاتم الطائي/ رئيس تحرير الرؤية العمانية
لا تنفك دولة الاحتلال الإسرائيلي تُمارس أبشع أنواع العربدة الوقحة في منطقتنا العربية؛ سواءً في الأراضي الفلسطينية المُحتلة- غزة كانت أو الضفة الغربية أو القدس- أو في سوريا أو لبنان أو اليمن أو العراق، وما خُفي أعظم!
هذه المُمارسات الإرهابية من الكيان الصهيوني تنطلق بدوافع استعمارية إمبريالية، تهدف في المقام الأول والأخير إلى ترسيخ أقدام هذا الكيان الإرهابي الظلامي، ليكون أشبه بـ"شرطي المنطقة"، يرفع العصا لمن عصا، ويمنح الجزرة لمن خنع وركع! لم يعد خافيًا على أحد أنَّ الكيان الصهيوني حصل رسميًا على صك الوكيل الإجرامي للولايات المُتحدة؛ إذ لم تعد واشنطن- في عهدة ترامب الثانية- راغبة في تنفيذ عمليات عسكرية أو خوض حروب حقيقية على الأرض في المنطقة العربية، وفي المُقابل يمنح الكيان الصهيوني ضوءًا أخضرَ لتنفيذ كل العمليات القذرة التي كانت تتولاها القوات الأمريكية، وكانت تلقى الهزيمة الساحقة واحدة تلو الأخرى، ولنا في صمود الشعب العراقي أنموذجًا مُشرِّفًا للصمود في وجه المُحتل.
عندما نقول إنَّ إسرائيل تُريد أن تصبح "شرطي المنطقة" فهي لا تستهدف فقط الهيمنة على المنطقة العربية وإخضاع الدول العربية والتدخل في سياستها التعليمية والزراعية والطبية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والعسكرية، وفرض سيطرتها على كل قرار تتخذه أي دولة لا يخدم مصالح الكيان الصهيوني، وإنما أيضًا يسعى هذا الكيان الإجرامي إلى تمهيد الطريق نحو تحقيق مزاعمه وأوهامه الزائفة، والسعي لتنفيذ ما يسميه "إسرائيل الكبرى".
ومن أجل تحقيق وهم "إسرائيل الكبرى" يرى هذا الكيان أنَّه ينبغي إظهار القوة الغاشمة لجميع دول المنطقة، ودليل ذلك حرب الإبادة الجماعية التي يُنفذها في قطاع غزة منذ ما يقترب من 3 سنوات، فمن يتخيل أنَّه منذ 7 أكتوبر 2023 وإسرائيل تقصف 365 كيلومترًا مربعًا بأشد القنابل تدميرًا وبكل الأسلحة، برًا وجوًا وبحرًا، وتنفذ عمليات إعدام ميدانية ومذابح جماعية في طوابير الجوع، لتمتزج دماء الفلسطينيين الأبرياء بكل ذرة طحين. هذه القوة الغاشمة تجلّت كذلك في عمليات التهجير القسري التي تجري على الأرض ساعة تلو ساعة ويومًا وراء آخر في قطاع غزة؛ حيث ما يزال الشعب الفلسطيني الأسير يتعرض للتهجير قسريًا من شمال غزة إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى شمالها، ومن الشرق إلى الغرب والعكس.. تهجير لا يتوقَّف وعدوان لا ينتهي، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تتسبب في سفك دماء الأحرار، أولئك الذين رفضوا بيع وطنهم بدراهم معدودة، لذا لم يكونوا من الخاسرين. فقدموا في هذه الحرب العدوانية البشعة أحباءهم بكل صمود وثبات، لم تنحنِ رؤسهم ولم تخضع رقابهم للمحتل المُجرم الجبان؛ بل واجهوا عدوهم وعدو الأمة بكل جسارة بأجسادهم العارية، فتجرعوا الويلات فوق الويلات، وشربوا كؤوس الظلم والطغيان دون أن يستسلموا، آمنوا أنَّ الله معهم وأنه نصيرهم وحاميهم..
لم يتوقف مسلسل التهجير القسري حتى في ظل الرفض الرسمي والشعبي العربي لهذه المُخططات، والتي على رأسها مخطط "ريفييرا الشرق" الذي يراه ترامب قريبًا ونراه بعيدًا بإذن الله. ومن هُنا تلجأ دولة الاحتلال إلى مُواصلة عدوانها الإجرامي في غزة المُدمَّرة والمُنهكة، وكأنَّ هذا الكيان الصهيوني الوقح يقول للدول العربية إنَّ واقع الحال في غزة هو مصير من يُعارض إسرائيل، ومصير من يُحاول أن يرفع سلاحه ضد إسرائيل، ومصير من لم يخضع لإسرائيل، ظنًا من هذا الكيان الإجرامي أنَّ الشعوب العربية ستركع وتخنع.. لكننا نقولها بكل صدق وإخلاص: لا وألف لا، لن تركع الشعوب العربية، ولن يركع الشعب الفلسطيني المُناضل، ولن يركع كل حُر في هذا العالم، حتى ولو خضع الرؤساء والقادة، حتى ولو برَّر البعض الخضوع بـ"الانحناء للعاصفة"، حتى ولو دافع المُتصهينون العرب عن جرائم إسرائيل بزعم أنها "دفاع عن النفس"، حتى ولو تكالبت الأمم علينا من كل حدب وصوب.
الكيان الصهيوني حاليًا بقيادة مُجرم الحرب بنيامين نتياهو ومن ورائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يسعى إلى تأسيس "الإمبراطورية الصهيونية"، إمبراطورية الظلم والعدوان والاحتلال، من خلال الإمعان في تنفيذ مخطط التهجير القسري بكل جبروت ووقاحة، ومن خلال العدوان على لبنان الصمود، ومحاولة وأد المقاومة الشريفة في الجنوب، ومن خلال العدوان على اليمن الحُر الأبيّ، والسعي لإضعاف المُقاومة الصامدة والمؤازرة للمقاومة في فلسطين العزة والكبرياء، وأخيرًا من خلال العدوان على سوريا الباسلة، وإشعال نار الطائفية البغيضة، والزعم بالتدخل في سوريا لحماية الأقلية الدرزية.
وفي خطابه الأخير، تحدث أبوعبيدة الناطق العسكري باسم "القسام" حول "الحلول القذرة" التي يسعى الاحتلال لتنفيذها والتي تشكل جرائم حرب وإبادة جماعية، والتفنن في تعذيب الأبرياء والتصريح علناً بنيته لتهجير الفلسطينيين، وتقديم مخططات لإقامة معسكرات اعتقال نازية تحت مسميات إنسانية وهمية كاذبة أمام أعين العالم كله، وكأنَّ هذا العدو يريد أن يجتر تجارب وقعت قبل عقود طويلة ويسقطها على الفلسطينيين بكل سادية وإجرام تتصاغر أمام النازية، وهو ما يستدعي رفض العالم كله لهذه المعسكرات، وإلا فإن أكذوبة معاداة السامية التي تقتات عليها إسرائيل منذ عقود ستكون مهزلة وفضيحة، فليس ذنب الفلسطينيين دفع ثمن العُقد النفسية للصهيونية المجرمة، إذ إنَّ سبب كره الأمم للصهيونية هو أفعالهم وجرائمهم بحق الإنسانية.
ولا يخفى على أحد الدور الإسرائيلي القذر في سوريا، حيث تستغل الظروف الصعبة التي تمر بها الدولة العربية الشقيقة لتفكيكها وتمزيق وحدتها وإضعافها وإقامة إمارات طائفية داخلها، فنجد الاحتلال يدعم مسارات الفوضى في السر والعلن كما أنَّه يشجع على تغذية النزاعات الطائفية لتفتيت النسيج الوطني السوري. وهذا التفتت والانقسام السوري سيخدم بلا شك أهداف الاحتلال المتعلق بإنشاء ما يُسمى بـ"ممر داوود"، وهو شريط جغرافي ضيق يمتد عبر قلب المشرق يبدأ من مرتفعات الجولان المحتلة في الجنوب الغربي باتجاه معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية العراقية الأردنية، وصولاً إلى دير الزور ثم نهر الفرات.
ويسعى المخطط لربط هذا الشريان بإقليم كردستان العراق عبر الحدود السورية العراقية، وهو مُخطط ليس بالجديد لكن الظروف الحالية أعادت طرحه لإحياء الطموح الصهيوني وتوسيع النفوذ الإقليمي، استناداً إلى تصورات عن حدود توراتية تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات، وفي القرن الماضي ظهرت مخططات لتقسيم الدول المجاورة للكيان لتحقيق هذه الرؤية.
نعلم علم اليقين أنَّ سقوط الدول المركزية الكبرى يمنح الكيان الصهيوني الفرصة السانحة لتنفيذ مخططه الآثم لإقامة "إسرائيل الكبرى" أو "الإمبراطورية الصهيونية"؛ إذ بعد سقوط العراق قبل 25 سنة، وسقوط دمشق قبل نحو عام، وإضعاف لبنان، ومحاصرة دول الطوق (الأردن ومصر) وتدجينها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وإحراق السودان في نار الحرب الأهلية، والاحتراب المُسلح بين مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وتهميش دول المغرب العربي، ومحاولة اختراق ما تبقى من دول الخليج غير المخترقة، فالنتيجة الحتمية التي لا يُريدها وطني عروبي مُخلص لهذه الأمة، أن يتضخم السرطان الصهيوني في المنطقة، ويفرض سيطرته على القرار العربي، ومن ثمَّ يتحين الفرصة للإجهاز على كل دولة تسقط واحدة وراء أخرى.
لا ريب أنَّ حرب الأيام الاثني عشرة بين إيران وإسرائيل، مثّلت تجربةً مُخيفة لما يُمكن أن تؤول إليه أحوال منطقتنا العربية إذا ما اندلعت حرب كبرى واسعة النطاق في الإقليم؛ حيثُ سنجد هذا الكيان وبغطاء ودعم أمريكي كامل يُعربد في منطقتنا، ويمارس الإرهاب والقتل والمجازر في كل دولة عربية، وستنهار دولنا بالكامل، لتبقى إسرائيل فقط هي الدولة القوية والمُهيمنة في المنطقة؛ ليُكتب بذلك الفصل الأول من "الشرق الأوسط الجديد"، الشرق الذي تُريده أمريكا وإسرائيل بلا دول ذات سيادة؛ بل دويلات وأشباه دول لا سيادة لها، تنتظر القرار من الخارج، لا تملك حرية التصرف في مُقدراتها ولا مواردها، لأنها تذهب دون استئذان للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة. الشرق الذي تريده أمريكا وإسرائيل هو شرق موالٍ لكل ما هو صهيوني، ومُنبطح لأي قرار أمريكي، لا سُلطة فيه لشعب ولا لحاكم، ولا دور فيه لحكومة أو مجالس مُنتخبة، الجميع خاضع ومُستسلم ومُنقاد وذليل ومُتذلل ومُذعن بكل حقارة واستحقار.
إنِّه سيناريو أسود وكابوس مُخيف وسردية لا تُحتمل، لكنَّ إرادة الشعوب العربية والشعوب الحُرة فوق كل تآمر وخذلان، إنها إرادة تعلو فوق كل باطل وزور، تسمو بنفسها نحو العُلا وإلى مراتب الشرف والنُبل والكبرياء، تطير في سماء الحرية والكرامة والعُزة والإباء.. لن تركع أمتنا، ولن تستكين، ولن تُهاوِد، ولن تخضع، ولن تُذل بإذن الله العزيز القدير.
ولذلك علينا أن نعلم أنَّ هذا الكيان الصهيوني لا يستطيع أبدًا أن يخترق الأوطان إلّا من داخلها، عبر شبابها، عبر رجالها، عبر نسائها، من خلال أدواته اللعينة والكريهة، من مخدرات ومُمارسات غير أخلاقية، واللعب على أوتار الطائفية والمناطقية والقبلية، واختراق الوعي المجتمعي عبر نشر الانحلال وإشاعة الفوضى، وتعمُّد تجهيل المجتمع من خلال منصات التواصل الاجتماعي، والإيقاع بين الشعوب العربية، وتأليب الرأي العام وإنهاكه في مهاترات لا نهائية، وبث ثقافة التفاهة وتسطيح المعرفة، وغيرها من الأدوات التدميرية الناعمة، من ثم الإجهاز على الأوطان بالقوة الخشنة العسكرية القاتلة والمُدمِّرة.
ويبقى القول.. إنَّ أوهام الكيان الصهيوني بإقامة إمبراطوريته الإرهابية عبر المُخطَّط الإجرامي المُسمَّى "إسرائيل الكبرى"، نهايتها التلاشي والفناء قريبًا جدًا؛ بفضل إرادة الشعوب الأبيّة والضمائر الحيّة لأحرار الأمة والتي لا تموت أبدًا. سيفشل هذا الكيان الإجرامي فشلًا ذريعًا كما يفشل دائمًا، وسيتجرَّع مرارة الهزائم المُتتالية حتى يزول نهائيًا وحتميًا عن أرضنا العربية، وستجُر أمريكا أذيال الهزيمة كما اعتادت، في فيتنام وأفغانستان والصومال والعراق وسوريا وغزة واليمن.. ولذا علينا أن نصدح بحناجرنا وبأعلى صوت: فلسطين حُرَّة والموت لإسرائيل.. فلسطين حُرَّة والموت لإسرائيل.. فلسطين حُرَّة والموت لإسرائيل.