د. محمد المصطفى الولي
قراءة في مذكرات النائب السابق الخليل الطيب
قبل فترة صدر عن دار جسور عبد العزيز بالجمهورية الإسلامية الموريتانية كتاب :" سيرة ومسيرة " وهو عبارة عن مذكرات للقيادي الناصري والنائب البرلماني السابق الخليل ولد الطيب.
وقد جاء الكتاب ( الطبعة الأولى 1446 هـ2025 م) في 416 صفحة من الحجم المتوسط، تضم مقدمة، وفصولا متسلسلة زمنيا وسياسيا، وملاحق غنية بمقابلات ومقالات وبيانات سياسية، إضافة إلى صور ووثائق شخصية.
قدم لهذا العمل النائب البرلماني الدكتور الخليل النحوي الذي رأى بأن: " هذه المذكرات ليست مجرد سيرة ذاتية، بل هي قطعة حية من تاريخ موريتانيا، ومشاهد ناطقة من تاريخ الأمة العربية والقارة الإفريقية، رصدتها عين سياسي مجرب، وطرزتها أنامل شاعر عربي، بخيوط من الشعر الماتع، والحكمة النافعة".
وفعلا كان النحوي محقا في تقديمه أو نصه المواصي هذا، فهذه المذكرات ليست مجرد وثيقة ذاتية، بل هي بنية متشابكة من الشهادات والسير والأفكار والتحولات السياسية التي عرفتها موريتانيا والمنطقة العربية والإفريقية خلال العقود الخمسة الأخيرة، كما رآها وشارك فيها أحد أبرز الفاعلين في تيار الناصرية بموريتانيا.
فهي إذا ليست سيرة ذاتية تقص حكاية فرد صعد من البادية إلى قبة البرلمان، بقدر ما هي مرآة لرحلة وطن يخطو خطواته الأولى على طريق الدولة، ويعيش تذبذبات الفكر والتيارات والأحلام التي راودت أبناء جيله ذات يوم من أيام المد القومي العربي.
من طفولة "بلار" إلى خيمة القومية
يبدأ الخليل رحلته من قرية صغيرة تنام في ظل كهف مفتوح على ربوع " اعديلت الإمام" بالعصابة، حيث يتشابك الحنين بالبساطة، والطفولة بالقيم التي شكلت معالم شخصيته.
هناك، بين أحياء الجكنيين صفت روح الطفل وخرجت من سكينة الطفولة وتيه الأحلام الأولى في "بلار"، حيث تنعقد حياة الصبي البادية على ضوء القيم وتلاوة القرآن الكريم ومعاني الصبر والكرم والإيثار، قبل أن ينتقل إلى عالم المحظرة الفسيح، ثم إلى المدرسة النظامية في كرو وبوتلميت حيث يطيب اللقاء بلاميعاد مع التيار الفكري الحديث.
ومنذ وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، كما يروي الخليل، انقدحت شرارة الوعي السياسي في داخله، فكان الحدث رسالة تحول كبرى- مؤجلة- في ذهن تلميذ يطارد محفوظاته في مرحلة " الذهابة " إلى مناضل مؤمن بفكرة الأمة الواحدة.
إن المدهش في سيرة الخليل أن هذه البدايات الحية والمروية بشاعرية بدوية عذبة لا تروى للتطريب والقصص فقط، بل لتبرير تحول الذات من الطفولة إلى الفكرة، من الحنين إلى الواجب، من العائلة الصغيرة إلى العائلة القومية الكبرى.
الناصرية ليست شعارا... بل هي فكر وموقف
لا يكتب الخليل عن الناصرية كمن يروي تاريخ حزب، بل كمن يستعيد جزءا من ذاته.
يصفها بأنها: "مدرسة في الكرامة قبل أن تكون تنظيما في السياسة"، ويستعرض في صفحات ممتعة كيف نشأ التيار الناصري في كرو وبوتلميت، وكيف تشكلت نواته الأولى من شباب رأوا في عبد الناصر رمزا للتحرر والعدالة. وعن وهج البدايات مع تيار عاشره على مدى خمسين عاما جعلها مودة والتزاما بالدفاع عن الهوية العربية وحبا لجمال عبد الناصر.
ثم تأتي فصول العمل السري، فالملاحقات والاعتقالات، في سرد مشحون بالعاطفة والصدق، لا تبرير فيه ولا تزييف، بل عرض هادئ لما عاشه هو ورفاقه من أمل وانكسار، ومن صلابة وتحول في محطات حياته، يوثق الكاتب ملامح بارزة من المسار السياسي الحديث لموريتانيا، مع تركيز خاص على تطور الحركات السياسية السرية ثم الحزبية، ولا سيما الحركة الناصرية، التي أفرد لها مساحة واسعة تناول فيها نشأتها، ومسار تطورها، وتحول علاقاتها مع باقي التيارات السياسية بين تقارب وتباعد، كما استعرض طبيعة تفاعلها مع السلطة، ما بين احتواء ومواجهة، في رحلة كأنها السعي بين صفا القصر ومروة الأسر.
تقدم هذه المذكرات شهادة تاريخية جريئة بقلم النائب السابق الخليل ولد الطيب، تكشف عن جوانب خفية من التاريخ السياسي الوطني، وتوثق لمسار نضالي طويل، تخللته تحولات عميقة في بنية النظام السياسي، ونسيج المجتمع، وطبيعة التحالفات الفكرية والإيديولوجية.
وتتميز هذه الصفحات بامتزاج السرد الواقعي بالتحليل العميق، والتوثيق الدقيق بالأسلوب الأدبي الرصين، حيث تنصهر التجربة السياسية في بوتقة فكرية وشعرية، تمنح القارئ رؤية شاملة لمسيرة نضال ممتدة وتجربة إنسانية ثرية.
فـ"الناصرية"، كما يقدمها الكاتب، ليست مجرد اتجاه حزبي، بل قناعة وجودية وفكرية تأسست في وجدانه على مبادئ الكرامة والعدالة والوحدة، لا على أيديولوجيا صلبة فقط.
يكتب الخليل عن التحاقه بالتنظيم، وعن دوره في نشر الناصرية بين سكان كرو، وعن جذورها ومحطاتها في موريتانيا، عن مرحلة التيارية والتنظيمية، عن ناد شنقيط، عن المعتقل، عن عبد السلام جلود، عن ليبيا، عن القذافي، عن أجيال الناصرية وعن نقاشاته الفكرية، كما يكتب عن الحزن، والإخفاق، والخذلان، لكنه لا يكتب أبدا بلغة الكراهية أو التسويق الذاتي. بل يسعى لأن ينصف التاريخ بما فيه من شروخ ووفاء.
بين المعارضة والسلطة... رحلة البحث عن الوطن
يأخذ الكاتب القارئ في رحلة طويلة بين قاعات الأحزاب وأروقة السلطة، بين اعتقال ووساطة، وبين استقالة وعودة إلى العمل السياسي. ويبدو الخليل هنا أكثر واقعية من المثالية؛ فقد تعلم – كما يقول – أن السياسة ليست دائما صوابا أو خطأ، بل هي اجتهاد في فن الممكن لتحقيق المبدأ. ومن خلال تجربته مع أنظمة متعاقبة من ولد الطايع إلى ولد عبد العزيز، نلمح صورة السياسي الذي ظل يحاول التوفيق بين قناعاته القومية ومقتضيات الواقع الوطني، دون أن يتنازل عن بوصلته الكبرى.
يروي عن الزنازن ومخافر مفوضيات الشرطة، وعن المحاكمات العسكرية، ويستحضر أسماء رفاقه، دون أن يسقط في تصفية حساب أو تسويق بطولة زائفة بل يسجل موقف امتنان للشرطة الزنوج على ما قدموه له ورفاقه من تعاطف يوم كانوا وراء القضبان.
وجوه وذكريات... من سيرة الروح
في صفحات المذكرات تلوح وجوه كثيرة: رفاق النضال، زعماء السياسة، وأعلام الفكر والدين. لكن الوجه الأكثر إشراقا وحضورا فيها هو وجه أخي الكاتب الراحل أحمدو ولد الطيب، الذي خصه بصفحات تمتلئ بالحب والوفاء، ليست مجرد رثاء أو ثناء، بل ملاحم وجدانية مفعمة بالحب والإخلاص والوفاء، تتخللها تفاصيل دقيقة عن سداد الديون، وعن الكرم، وعن المروءة، وعن البذل .
في هذه الفصول، يتجلى الجانب الإنساني للكاتب، وتبرز " المرآة الباطنية في ابن مريد" التي يراجع فيها ذاته وماضيه، ويتحول فيها الحديث عن شخص إلى حديث عن فقدان المعنى، وعن المسؤولية الأخلاقية التي تبقى بعد رحيل الأحبة.
من الخصومة إلى الإنصاف
من أبرز فضائل المذكرات وسطيتها في التعامل مع الآخر، حتى مع من يختلف معهم الخليل من خصومه السياسيين، حيث نجده يكتب عن الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وعن أحمد ولد داداه، وعن مسعود ولد بلخير، وعن بيرام الداه اعبيد، بلغة تتسم بالحذر الواعي، لكنها لا تنكر الفضل، ولا تمارس التجني.
وفي عالم السياسة، نادرا ما نجد من يعترف لخصمه بنقطة نور، ويعتذر لمن لم ينصفه، وهذا ما فعله الكاتب بصدق، خصوصا في حديثه عن من آذوه ثم رحلوا، حيث قال: " أشهد الله أني قد سامحتهم جميعا، خصوصا أن اثنين منهم قد رحلا إلى رحمة الله."
تأملات في الخاتمة: " الالتزام لا ينتهي عند الخروج من الحزب"
في نهاية المطاف، كتب الخليل ولد الطيب سيرته، فكتب – من حيث لا يدري– شيئا من سيرة موريتانيا ذاتها؛ وطن صغير المساحة، عظيم بالتجارب والرجال. أسلوب الخليل ولد الطيب يفيض جزالة وبيانا، فهو ابن المحظرة والحادب على لغتها، يكتب بجمل تتراقص بين السرد الواقعي والنفس الأدبي .يستحضر الآيات القرآنية ويورد نوادر الشواهد الشعرية وينتقي أطايب الكلم بلغة البيان، وهدوء الحكمة، وحرارة التجربة.
يختم الخليل كتابه بتأملات فكرية وأدبية عميقة، تتضمن خطاب وادان، ومقالات تأييد وغضب، ومقابلات وخطابات تحليل، وكأن لسان حاله يقول إن الناصرية لم تكن لحظة وانتهت، بل مسؤولية مستمرة حتى خارج التنظيم. كما يعبر عن تطور خطابه السياسي بانفتاحه على تيارات متعددة، ومحاولته دمج الوطني بالقومي، والمحلي بالإنساني، والسياسي بالأخلاقي.
وصفوة القول أن « سيرة ومسيرة » تمثل عملا فريدا في السرد السياسي الموريتاني، لما يجمعه من أصالة التجربة، وصدق الشهادة، وجمال الأسلوب. فهي ليست فقط رواية رجل عن نفسه، بل هي حوار متصل بين جيلين: جيل حمل الشعارات ودفع الثمن، وجيل ورث النتائج دون معرفة المقدمات.