محمد افو
حين أصدر صموئيل هنتنغتون كتابه “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” عام 1968، لم يكن يناقش الفقر أو شبكات التحويلات الاجتماعية، بل كان يضع إصبعه على جوهر الأزمة التي عاشتها وتعيشها دول ومجتمعات كثيرة: التَّحديث أسرع من المؤسسات، والاندفاع الشعبي أسبق من بنية الدولة، فيسقط الاستقرار رغم ارتفاع التعليم وازدهار الوعي.
ويعتبر هنتنغتون أن هذا الأداء يكون إيجابيا من حيث التصور الأخلاقي لكنه قد يكون مدمرا من حيث التقييم البراغماتي. فلا يكفي الإخلاص في استيعاب المطالب والحاجات الاجتماعية، بل ينبغي أن تُدرس آلية التنفيذ في الجوانب المتعلقة بالأثر والنتائج.
إن ما يميز التجربة الموريتانية اليوم هو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني جعل من مبدأ التدرج ركيزة منهجية لكل سياسات الحماية الاجتماعية. فالتدرج هنا ليس شعارًا شعوريًا أو مجرد توجيه سياسي، بل هو أداة تنظيمية دقيقة تسمح بتنفيذ البرامج وفق قدرة الدولة على الاستيعاب والتقييم، مع مراعاة الاستدامة وعدم الانزلاق إلى ردود فعل ظرفية أو تسريع غير محسوب للتغيير. وفي هذا الصدد، يُمكن اعتبار الصبر الذي يتحلى به الرئيس ليس فضيلة شخصية فحسب، بل ركيزة استراتيجية لضمان أن كل خطوة إصلاحية أو برنامج دعم يُنظّم ضمن بنية مؤسساتية متماسكة، ويُقيم أثره قبل التوسع في نطاق التطبيق.
وخلاصته الأكثر عمقًا، هي أن طموحات المجتمع إذا لم تُضبط بقواعد وبُنى تنظيمية متماسكة تتحول من قوة دفع إلى قوة تفكيك، حتى لو كانت المطالب عادلة والأهداف نبيلة. هذه الرؤية ليست تنظيرًا مجردًا حين نسقطها على ملف الحماية الاجتماعية في موريتانيا اليوم، فهي تساعدنا على فهم الفارق الحاسم بين مقاربتين:
• الحماية الاجتماعية بوصفها مطلبًا احتجاجيًا يمكن أن يتغير بتغير المزاج السياسي،
• والحماية الاجتماعية بوصفها مؤسسة وطنية تُبنى بقواعد، تُقنَّن بالقانون، وتُدار بالاستمرارية، لا بردّ الفعل.
وفي هذا السياق، تتجلى رؤية الرئيس غزواني في التأكيد على أن التدرج والصبر معًا يشكلان الضمان الرئيس لاستقرار البرامج الاجتماعية. فكل خطوة يتم توسيع نطاقها أو تعزيزها تُقيَّم أولًا وفق الأثر المحتمل على المواطنين وقدرة المؤسسات على التنفيذ، ويُعطى الوقت الكافي لضبط المسار وتصحيح الأخطاء قبل الانتقال إلى المرحلة التالية. هذه المنهجية المتدرجة تترجم عمليًا مبدأ هنتنغتون حول أن الدولة الناجحة ليست التي تلبّي المطالب فقط، بل التي تبني قنوات تنظيمية تدمج هذه المطالب ضمن مؤسسات قوية، بما يحمي النظام الاجتماعي والسياسي من الفوضى ويحوّل الحماية الاجتماعية إلى رافعة استقرار.
وهذا التدرج أحدث مع الوقت بنية مؤسسية وقانونية متكاملة لفلسفة الحماية الاجتماعية .
والأهم من ذلك أن هذه البرامج لم تعد مجرد كرنفال انطباعي خاضع لتحولات الأمزجة والبرامج السياسية ، بل منظومة هيكلية ضمن بنية الدولة نفسها .
وهنا تحديدًا، يمكن قراءة توجهات الدولة خلال السنوات الأخيرة في هذا المجال، ليس من زاوية “الخطاب”، بل من زاوية إعادة بناء عقد اجتماعي مؤسسي يجعل الحماية الاجتماعية جزءًا من هندسة الدولة لا مجرد استجابة ظرفية لنداء ظرفي.
فالتوسع في برامج الدعم، وإنشاء السجلات الاجتماعية، وتثبيت آليات الاستهداف، وإدماج الطبقات الهشّة في برامج الصحة والتعليم والتحويلات النقدية، لا يعكس مسار رعاية ظرفية، بل تحوّلًا من ثقافة الإعانة المتقطّعة والمسيسة إلى بنية الدولة الحامية، وهذا هو الفرق الذي يعتبره هنتنغتون جوهريًا:
“أن الدولة الناجحة ليست التي تلبي المطالب، بل التي تبني القنوات التي تنظّم المطالب نفسها.”
في دول كثيرة، أدت طفرة الوعي الاجتماعي من دون مؤسسات قادرة على استيعاب الإصلاحات إلى صدامات، أو فوضى، أو انزلاق الحماية الاجتماعية إلى فخ الزبونية، أو استغلالها في الاستقطاب السياسي. وهنتنغتون يحذر من ذلك مبكرًا حين يؤكد أن شرعية الدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بقدرتها على إدارة المطالب داخل مؤسسات لا على هوامشها.
ما يميز ما يجري اليوم في موريتانيا – إذا أُحسن تتبعه – هو أن الحماية الاجتماعية تحولت من اداة للتعبئة الجماهيرية، إلى مؤسسات وقوانين وبرامج استراتيجية داخل بنية الدولة نفسها، ولا تُدار بروح الإغاثة الموسمية بل بمنطق الاستدامة، ولا يُراد لها أن تصبح منحة سياسية بل ضمانًا اجتماعيًا.
وهذا فارق جوهري. فحين تتحول الحماية الاجتماعية إلى نظام مستقر ومتدرّج، فهي لا تحمي الفئات الهشة فقط، بل تحمي النظام الاجتماعي كله من الصدمات، وتمنع تحوّل الفقر أو التهميش إلى غضب غير ممأسس، وتسدّ الطريق أمام الشعبوية التي تزدهر غالبًا في التربة التي تفشل فيها المؤسسات.
هنتنغتون لا يقول إن الديمقراطية أو المشاركة غير مهمة، بل يقول إن توقيتها وترتيبها وحواملها المؤسسية هي التي تحدد ما إذا كانت ستصبح جسرًا نحو الاستقرار أم مدخلًا إلى الفوضى.
ويمكن تطبيق المنطق نفسه على السياسات الاجتماعية: فهي ليست فقط حقًا اجتماعيًا.. بل حصن استقرار سياسي واقتصادي إذا أُديرت كاستراتيجية لا كحدث.
من هنا، تتجاوز الحماية الاجتماعية معناها المباشر لتصبح جزءًا من بناء الدولة وترميم الثقة، وهي حين تُنجَز بهدوء، وبنَفَس مؤسسي من دون ضجيج ثوري أو توظيف سياسي، تكون أقرب إلى النموذج الذي يحوّل التحديث إلى استقرار، بدل أن يحوّله إلى اضطراب.
إن القيمة الكبرى لأي سياسة اجتماعية اليوم ليست في حجم ما توزّعه، بل في ما تؤسسه له وما تحول دونه. وهذا هو الرهان: ليس حماية المجتمع في الحاضر فقط، بل حماية الدولة في المستقبل.