الماء والحياة

في سورة هود هذا النص الفريد «وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء»، وقد ذكر الله سبحانه في غير ما آية من كتابه أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وذكر استواءه على العرش جل في علاه، لكنه أفرد هذه السورة بذكر كون عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض.

ولعل في هذا إشارة إلى أهم أسرار الحياة، ومادتها، ويعضده قول الحق تبارك وتعالى في سورة الأنبياء «وجعلنا من الماء كل شيء حي».

وللماء قيمته التي لا تقدر بثمن، إذ حيث وجد الماء وجدت الحياة، فبالماء الذي أنبعه الله تحت قدمي إسماعيل دبت الحياة في وادٍ غير ذي زرع، وأمّه الناس منذ آلاف السنين حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ورود ماء مدين ابتدأت حياة العز لموسى عليه السلام.

يبدو لي أن الحديث عن أهمية الماء للحياة نوع من السفسطة، إذ لا يخفى على عاقل، بل حتى المجنون يدرك ذلك، وكم من قطرة ماء بحث عنها مقطوع في صحراء تحت لهيب شمس محرقة كانت تساوي ثقل الرجل ذهباً. وكل من عاش قبل عقود من الزمن قبل توحيد هذه البلاد المباركة، وإلى سنوات ليست ببعيدة يدرك كم كانت المعاناة التي يتكبدها المرء ليحصل على الماء النقي، يشربه ويستخدمه في شتى أمور حياته.

وسئل صلى الله عليه وآله وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. وفي الحديث: أول ما يقال للعبد يوم القيامة: ألم أصحح جسمك، وأرويك من الماء البارد؟.

ولما لم يكن في المدينة ماء يستعذب غير بئر رُومة قال عليه الصلاة والسلام: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان رضي الله عنه.

وفي خبر الرجل الذي سقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. فقص النبي صلى الله عليه وآله وسـلم لأمته هذه القصة لم يكن شيئًا عابرًا، بل هو أساس للتذكير بهذه النعمة العظيمة التي بفضلها دخل هذا الرجل الجنة.

ذكر الماء في القرآن كأساس للحياة في الدنيا والآخرة، أما كونه أساس الحياة في الدنيا فواضح فلا يقدر مخلوق على الاستغناء عن الماء، وأما كونه أساس الحياة في الآخرة فيوضحه قوله صلى الله عليه وآله وسلـم: لا يقبل الله صلاة أحدكم بغير طهور، وقد جعل الماء الأساس في الطهارة، فالدخول في الصلاة أهم العبادات هو حقيقة باب الدخول إلى الجنة.

ولقد كان من الصعوبة الحصول على شربة ماء، لا أقول ممن سلف، بل ممن يعيشون في هذا الزمان في بعض القارات، وكم قتل الجفاف من أنفس، لهذا كانوا شديدي الحرص على قطرة الماء، حفاظاً على مصادر بقائهم وحياتهم، وكانت آبار وعيون تغذيهم بالماء، وربما كانت بعيدة عن بيوتهم، وغير آمنة من عبث الحيوانات والطيور، ومع ذلك يفرض عليهم واقعهم غض الطرف عن كل معيب فيها، ولم يغضوا الطرف عن أهمية تكريمها والحفاظ عليها.

ولا نحتاج في بلادنا إلى «قِرَب ولا دلاء، ولا آبار مكشوفة تلقى فيها مخلفات البشر»، بل مياه تصل إلى بيوتنا، بمجرد ضغط مكبس يأتيك «ماء نقي»، وتفننت الشركات في تنقية الماء فأصبح الناس لا يشربون إلا ماءً معقمًا، وبوسائل أغنتهم عن البكور في الفجر لحمل المياه إلى البيوت كما كان يفعله الآباء والأجداد، ولا أشك أن فيكم من أدرك السّقا، وعاش تلك المعاناة.

فنعمة المياه النقية لا يوازيها نعمة مع الأمن والاستقرار، والعافية، وقد زادت قيمة المياه غلاء لما يبذل في تنقيتها وتحليتها وضخها من أموال، قد لا يشعر بقيمتها الناس اليوم لسهولة وصولها إليهم، ولو انقطعت عنهم ساعات أو أياماً لأدركوا هذه النعمة وقدروها حق قدرها، ولتعاملوا معها بحذر وتقنين، حينها يتذكرون قول الله «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا».

الإسراف في الماء عبث بالحياة، وتعريضها للخطر، بل قد تواجه الموت وهي نادمة، ولا يرضى أحد أن يوصف بالعبث، ولا أن يقال عنه إنك مسرف، حيث لا يرى نفسه مسرفاً، وهو يفتح الصنبور بأعلى قوة ليغسل يديه فيضيع ماءً كثيراً كان يمكن تقليله إلى عشر معشار ما أهدر.

وقل ولا حرج عن المرء يغتسل فيفتح الدش ليسيل الماء مدة اغتساله ربع ساعة أو أكثر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع.

فلما كنا نعيش هذه النعمة بيسر وسهولة صرنا نهدرها، ولا نعي قيمتها، ونخشى أن تزول هذه النعمة إذا لم نشكرها، فإن النعم يقيدها الشكر ويزيدها، ويذهبها كفرانها والإسراف فيها.

هذا، والله من وراء القصد.