خالد محمد لحروب
كاتب وشاعر وأكاديمي أردني فلسطيني، محاضر في مقر كلية الفنون الحرة بشأن سياسات الشرق الأوسط والدراسات الإعلامية العربية في جامعة "نورث وسترن" وجامعة كامبريدج عمل لفترة مقدما لبرنامج"خير جليس" على قناة الجزيرة الفضائية
دروس وانطباعات..من بلاد شنقيط
في عمر اليفاعة الأول لطالما واجهنا سحر أثير وغموض محبب حول شناقطة المشرق: هؤلاء الرجال الذين يحملون لقب "شنقيطي" وتتوسط أسماءهم لفظة "ولد" نعرف أنهم علماء وقضاة وعندما نسأل يقال لنا إنهم من بلاد شنقيط، بلاد عربية بعيدة..ولما كبرنا كانت موريتانيا قد كبرت ولم تعد في مخيلة من سمع عنها أو عرفها شنقيط فحسب صرنا أيضا نعرف أشياء كثيرة عن البلد العربي المتوسد وهدة الغرب الأفريقي.
وعندما كانت أقدار جميلة تسوقنا إليه في أواخر ثمانينات القرن الماضي، تعاظمت أسباب ما قد ضاعف الشغف بالبلد..هنا الناس والتاريخ والصحراء والأسماء تجعل الفقر والجوع ظواهر عابرة لا تستحق إلا احتلال ما بين قوسين في نص نثري وعميق امتد كاتبوه من حضر موت إلى شاطئ الأطلسي. وهنا الإهمال المرير من قبل العرب والظاهر هنا وهناك، كان الموريتانيون بحرص الشقيق الباحث عن أعذار لشقيقه، كانوا يؤثرون استغلال وقتهم بالترحاب الطافح بكرم الفقراء بالقادمين القلائل من المشرق عن تضييعه في العتاب والملامة.
من عمر اليفاعة الأول إلى أعمار وأعمار لاحقة صار لموريتانيا وهج في القلب وانحياز في المتابعة. واليوم هنا في بلاد الاغتراب حيث يندر أن يتردد صدى لأغنية موريتانية تنظم أمسية في لندن كاملة لتصفح مخطوطة ترحال شنقيطية، تكتشف في تلك الأمسية أن بعضا من الرحالة البريطانيين كانوا قد نظموا رحلة استكشاف إلى موريتانيا عام 1960 وأن عددا يفوق أصابع اليد الواحدة لا زالوا على قيد الحياة، منهم الدبلوماسي والأنثروبولوجي والمصور والمؤرخ والمستشرق وربما رجل الاستخبارات والجانب الأهم في تلك الرحلة والأمسية هو أنها مصورة عن فلم قديم بالأبيض والأسود. إذن نحن هنا نتابع في هذا الفلم وعشية استقلال موريتانيا خط سير رحالة من نواكشوط إلى شنقيط هنا الأسواق الفقيرة البسيطة، هنا نواكشوط التي بدأت حياتها كقرية على مقربة من بحر مكتنز بالسمك، هنا على من يريد أن يغادرها بأي اتجاه استخدام سيارة رباعية الدفع الخلفي المجهزة بكل الاحتياطات، وعندما تكون شنقيط في الشمال مقصد الرحلة فإن التجهيز لها يتطلب جهدا مضاعفا فالطريق الرملي الصحراوي أطول والمقطع الواصل بين أطار وشنقيط جبلية صخرية تنهزم فيها السيارات أمام صبر وصلابة وسرعة الجمال والحمير، الرحالة البريطانيون الذين زاروا موريتانيا وصوروها عام 1960 ما زال من زال على قيد الحياة منهم محبا لها وآملا أن يعود إليها.
طالب كثيرون في تلك الأمسية اللندنية الشنقيطية أن يتم تصوير فلم جديد بعد مرور كل هذه السنين على تلك الرحلة، يتضمن تصوير المشاركين في الرحلة الأولى ليسيروا في نفس خطتها، ولترسم الكاميرا مسيرة عقود من حياة وتطور موريتانيا، وكل من حضر الفيلم بأن يحال الاتصال بأي جهة من الممكن أن تدعم هذه الفكرة وتتبناها.
وأنا هنا أكتب عنه آملا أن تقرأ هذه الكلمات من مهتم ما!
تحدث ثلاثة ممن شاركوا في الإبحار من شنقيط عن أيامهم هناك، وعن المخطوطات القديمة التي تحتضنها جنبات جامع شنقيط الصامد وسط رمال صحراء لا بداية لها ولا نهاية.
رأينا الشناقطة يشرحون للزائرين الغرباء بفرنسية الستينيات عن أهمية المخطوطات التي عمر بعضها أكثر من عشرة قرون.
شنقيط كانت الرباط الذي أسسه علماء المالكية لنشر الإسلام في الغرب الإفريقي منها وإليها كانت وفود جماعات تجيء وتروح، تحمل ألواحا كتبت عليها أمهات الكتب، جابت أقصى أقاصي القارة السمراء.
لما آل إلي أن أنقل انطباعاتي عن شنقيط موريتانيا وأهلها كما شهدتها أول مرة في أواخر الثمانينيات كنت أغلق عيني وأرحل إليها ثانية على بساط ريح "حضر موتي" حملني كما حمل قبائل الحسانيين من اليمن وطار بهم إلى هناك.
التحفت دراعتي وتركت لساقي نهب الصحراء ونثر انطباعات كانت وما زالت تتأكد لي كلما زرت البلد المضياف؛ أولها الاندهاش والتعلق لكل من يغوص فيما وراء السطح في موريتانيا، وكما في غيرها ينقسم الزوار إلى قسمين: من يبقون على السطح فلا يرون سوى القليل ولا ينخرطون إلا مع القليل فيعودون بانطباعات السائحين، وهناك من يغوصون فيما وراء السطح ويدركون غنى العمق.
الأولون يشتكون من فقر البلد وعدم توفر أسباب الدعة والراحة ويغادرون بشكواهم وربما لا يعودون.
الآخرون يسحرهم غنى البلد وتاريخه وجغرافيته وأهله، وهؤلاء لا يملكون إلا أن يعودوا مرة ومرات.
الانطباع الثاني الكبرياء والتواضع هؤلاء هم الناس الذين يرفض الرجل في بعض قبائلهم الشمالية أن يظهر عواطفه لزوجته أو أبنائه لأن فيها إظهارا لضعف لا يليق بالرجولة..
هذه هي القبائل التي رفضت الرضوخ للاستعمار الفرنسي أو التقيد بما تمليه أنماط الحياة الحديثة، الصحراء التي لا حدود لها هي ناظمة تمردهم على قيود المدينة وأشكال العيش الحديث المعلب.
الانطباع الذي تراكم لدي عن موريتانيا والموريتانيين هو الفصاحة فهؤلاء اليعربيون الأقحاح يعشقون العربية ويذوبون بها حبا.
ورغم أن لهجتهم الحسانية فاجأت مشرقيا مثلي للوهلة الأولى، إلا أن فصاحتهم التي تترجم شعرا هنا وهناك لا تترك مجالا إلا للإعجاب.
هنا بلد الميون شاعر يلقون الشعر في أي مقام، وهنا بلد الحفاظ والأئمة الذين يتلون عن ظهر قلب متون الكتب الكبرى فضلا عن القرآن والحديث.