**
الجديد نيوز/ محمد سيدناعمر
قال له أحد الأساتذة يوما مشيدا بتأقلمه مع الظروف التي تعترضه "أنت أشبه ما تكون بالإسفنجة تمتص كل ما توضع عليه"
سياسي موريتاني عتيد من الطراز الأول... عاش طفولته في اليتم .. تربى في كنف والده وقد كان دخوله للتعليم النظامي بعد معركة مواقف صعبة.
كان مجدا في دراسته التي حملته من ثانوية روصو إلى مقاعد كلية الطب في السنيغال.
تشربت عروقه إيديولوجيا القومية العربية التي هيمنت على التاريخ السياسي العربي ردحا من الزمن وشكلت دوافعه لدخول السياسة .
عاش السجون والظلم وخبر التعيينات والمواقف السياسية في ظل موجة أحكام متقلبة وحقبة مظلمة بالبلد ...
سرعان ما حلق في سماء السياسة من الباب الكبير في ظل نظام ولد الطايع ووصل قمة الهرم الديبلوماسي لتكون النهاية مع مرحلة جديدة .
الوزير والدبلوماسي السابق محمد فال ولد بلال في الصورة القلمية التالية:
"كيمي" مربع الصبا... وعنوان للذكريات
رأى السفير والوزير السابق محمد فال ولد بلال النور في بلدة تسمى (كيمي) 15 كلم من مدينة مقطع لحجار.
"إنها بلدة جميلة أشجارها مثمرة مراتعها غنية بحزام أخضر طبيعي، يفصل ما بين الكثبان الذهبية في منطقة أكان وبين السهول الصالحة للزراعة"
تاريخيا توصف "كيمي" بأنها دخلت في مخيلة المستعمر باعتبارها موقع تلاق بين القوافل والركبان القادمة من شمال آدرار والنازلين من مرتفعات تكانت وأفله كما أنها محط رحالهم في الطريق إلى شمامة.
تشتهر بأنها مكان اجتماع ما يسمى بجماعة الاجتهاد يلتقي فيه قادة المستعمر بشيوخ القبائل وقادة الرأي.
يحن محمد فال إلى بلدة كيمي التي لها مكانة عظيمة في وجدانه.. ويحز في نفسه أن سياسيين قصروا في حقها.
مرابع الصبا مواقف نَحنُّ لها جميعا ونهفوا لها كلما ذكرت أو جاد الزمان بوصلها أو مر ذكرها عابرا على الألسنة.
وسط محافظ ...ومسيرة دراسية صعبة
ترعرع ولد بلال في أسرة علم وصلاح (خيمة التلاميد)
دخل المحظرة في سن مبكرة وتربى في كنف والده.. عاش اليتم وهو صغير وكان وحيد أمه.
تسبب دخوله للمدرسة النظامية في معركة مواقف كبيرة في وسطه الأسري، كانت هي أول مدرسة ريفية في آفطوط (خيمة من وبر لها ثور يحملها وقت الرحيل)
في مثل تلك الظروف القاسية حيث شظف العيش وارتفاع درجات الحرارة أغلب فصول السنة وغياب وسط مدرسي مناسب كان محمد فال يزاول الدراسة..
حصل على شهادة الدروس الابتدائية في سيليبابي، ويذكر من بين دفعته عددا من الموظفين الذين شغلوا مناصب سامية فيما بعد.
واصل مسيرة التحدي فأحرز باكلوريا علمية سنة 1967 ..في رحلته الدراسية، عَبَر الضفة إلى الجارة السنيغال ..كان شغوفا بالطب وأكمل عامين على مقاعد كليته بدكار.
اضطراب أوضاع البلد السياسية وتيارات القومية العربية السائدة وموضة دخول الشباب حينها للسياسة؛ عجلت بتركه للدراسة ودخوله في معترك السياسة.
من مقاعد الدراسة ... إلى مغامرات السياسة
درس محمد فال عامين في كلية الطب بدكار.. جذبته مواقف القومية العربية بشعاراتها الرنانة إلى السياسة والتي حينها كانت قرقـفــا تحلّق حوله ندامى من شباب الوطن، تحدوهم الرغبة في تغيير كبير لواقع يلبي طموحات المواطنين.
كان يقيم في غرفة واحدة مع "سميدع" الأسطورة الخالدة في سفر تاريخ حركة الكادحين.
كانت جدران الغرفة مغطاة بصور قامات القومية العربية: نايف حواتمة، جورج حبش ورواد جيلهم في الحقبة الاشتراكية كفيديل كاسترو وتشيغيفارا.
كان الأسطورة "سميدع" يصدر جريدة "الكفاح" وقد كانت منبر من لا منبر له تَضُجّ سطورها بأنات المكلومين وأحلام البسطاء في الدولة الوليدة.
أثرت في ولد بلال كتب ذات نفس ثوري قرأها وطبعت هوى السياسة في وجدانه.
روافد أخرى رشف منها ولد بلال رحيق لغة الضاد وزلال القومية العربية كالبعثات المصرية في عهد القائد الرمز جمال عبد الناصر.
في عهد صدامات الكادحين بالنظام غيبته زنازين السجون لفترة ..إنها ضريبة الكفاح في عهد الظلم والأحادية.
تنسم عبق الحرية وبدأ مسارا دراسيا جديدا شارك في مسابقة المدرسة الوطنية للإدارة ضمن سلك الإداريين المزدوجين.. لعب الحظ لصالحه فتفوق في المسابقة.
أشار عليه أحدهم بطريقة تختصر المسار ... دخل الوظيفية بعد الاطلاع على ملفه المتميز.
صفحات جديدة ..في مسار مهني مُتقلّب
في يوم الانقلاب على المختار ولد داداه 10 يوليو 1978 ...طويت صفحة المدنيين وفتحت صفحات من تاريخ جديد أبطاله أصحاب الأحذية الخشنة..
عاقبه القادة الجدد على موقفه من الانقلاب بتحويله من أمين عام بوزارة في نواكشوط إلى حاكم لمقاطعة سيلبابي.. وصله الخبر في يوم قائظ عبر أثير المذياع، وكان وقتها في مقطع لحجار.
بعد ردح من الزمن عاد للعاصمة وأخذ عطلة من الوظيفة العمومية بهدف الراحة لحين استجلاء الوضع وتبدد غيوم الانقلابات بالبلد.
سرعان ما وقع انقلاب عبد القادر الملقب (كادير) 1981 فزج به في السجن لعلاقة الصداقة الوطيدة بينه وبين زعيم الانقلاب
قضى عاما جديدا في غيابات السجن إلى أن حصص الحق ببراءته.
خرج من السجن ميمما شطر العاصمة الاقتصادية نواذيبو يبحث عن ضالته في العمل تم اكتتابه إطارا في شركة خصوصية للأسماك وممثلا لها في نواكشوط، قادته منعرجات الحياة المهنية للعمل كمصرفي في بنك البركة وقد أصبح أمينا عاما للمصارف الموريتانية.
في ظل إعلان الديمقراطية الوليدة ابتسم له الحظ مجددا فدخل البرلمان كنائب عن مقاطعة مقطع لحجار في التسعينيات.
واصل رحلته السيزيفية في دهاليز السياسية فكان ناشطا وعضوا كبيرا في الحزب الحاكم وناطقا باسمه .
بحسب تصريح له فقد طال انتظاره لمكافئة التعيين بعد أن لعب دور الجندي المجهول لسنوات طويلة في الحزب .
في سنة 2003 تم تعيينه على أرفع منصب ديبلوماسي( وزارة الخارجية)
دامت فترة الوزارة (20 شهرا) وهي فترة قصيرةر بحساب الزمن
لكنها عريضة بحسب رأي ديبلوماسي عربي.
عمل فيها على إصلاحات هامة كاعتماد نظام خاص بسلك الدبلوماسيين وحقق إنجازات دبلوماسية ملموسة أخرى.
تفاجأ كثيرا بانقلاب 3 أغسطس 2005 ضد الرئيس معاوية ولد الطائع .
بين ألق الديبلوماسية .. ومعايير الفُتوة
ليس محمد فال دبلوماسيا كاريزميا مهتما بالعلاقات الدولية وتوازنات القوى الكبرى ومهامه التأثير والتأثر، متغربا في فكره ولغته وتعاطيه مع المجتمع، يعيش في برج عاجي بعيد عن ملامسة الواقع وتأثيره..
بالعكس فسعادة السفير محمد فال تربى في محيط محافظ يجل اللغة العربية وهو متشبع بثقافتها ويحنُّ إلى قراءتها والكتابة بها في شتى القضايا .
أحب اللغة العربية من محيطه ومن بعثات التدريس المصرية وانتشى طربا بها تأثرا بالكادحين
ملامح الفتوة بدت مبكرا على معالي الوزير حيث كان كافه من أول كيفان الأشوار في مجالس فتوة البيظان .
شاعر شعبي من الطراز الرفيع .. يندر أن تجده إلا وهو ينافح عن قضية وطنية في مقال رصين أو وسيلة إعلام أو في حلقة فكر أو حوار .
سياسي مفوه وخطيب بليغ ملم بكل قضايا الوطن، علاوة على معرفته الدبلوماسية بالقضايا الدولية.
إقالة مفاجئة .. ورحلة متاعب
بعد فترة من التمثيل الدبلوماسي للبلد في قطر ..كانت فرصة لتوثيق العلاقات بين البلدين الشقيقين؛ وصلتني رسالة استدعاء من الخارجية ظاهرها مهني وباطنها فيه ضروب معنوية من عذاب الإقالة ..عدتُ للبلد وأنا أختنق بتلك الغُصّة.
بين ثنايا السطور كانت توجد مبررات لتلك الإقالة.. من بينها موقفي السياسي من نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.. فبعد انقلابه على الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله كان موقفي من نظام عزيز يشبه صلاة المحاذاة عند الفقهاء، فليس لدي اقتناع ولم أقدم أي خدمة أتقرب بها منه.
وربما يكون النظام وصلته أخبار لا تخدم موقفي السياسي بالكامل، كما أن وجود الرئيس السابق معاوية في قطر كان القطرة التي أفاضت الكأس..
عدت للعمل السياسي من جديد ...وكان المشهد وقتها يغلي بالمواقف المعارضة لنظام الرئيس ولد عبد العزيز.. انخرطت في منتدى المعارضة ولعبت فيه أدوارا بارزة كما شغلت فيه منصب الأمين التنفيذي.
واصلت المسير في منعرجات المشهد السياسي وقتها ..كان دوي المواقف حول المأمورية الثالثة للرئيس الأسبق يصم الآذان،,
قطع الرئيس عزيز قول كل خطيب في مقابلة صحفية في الخارج حول عدم ترشحه للمأمورية الثالثة مع التأكيد على احترامه للدستور.
وجدتها فرصة تاريخية لدعم هذا المكسب الديمقراطي الثمين... اجتمعت مع قطب الشخصيات المستقلة بمنتدى المعارضة الذين اعتبروا ذلك التصريح مجرد مناورة سياسية للاستهلاك الخارجي..
صدقتِ الأيام حدس مصفاة ولد بلال التي يغربل بها مواقفه السياسية.
في مساره السياسي يتميز محمد فال بأنه لم يتنازل عن قناعاته ولا يستمع للقيل والقال ولا يعنيه في شيء؛ المهم أن يرضي ضميره.
رئاسة (سني) الأمانة الجسيمة
"َرنَّ الهاتف كان المتصل صديقا حميما .. أبلغني أنه تم اختياري لرئاسة(سني) ..شعرت بغبطة كبيرة بعد مرحلة صعبة من عذاب الإقالة المفاجئة والإبعاد القسري عن المسؤوليات والأبهة .
"في صباح يوم التنصيب نهضت باكرا كعادتي.. قمت بنفض الغبار عن بذلة فاخرة كنت أرتديها في أهم المناسبات أيام العمل الدبلوماسي ..جهزت البذلة ولوازمها بسرعة وقمت بارتدائها ..توكلت على الله ويممت شطر المجلس الدستوري ..تأخرت بدقائق ـ عمداـ عن الموعد المحدد إظهارا للتريث وإخفاء لما بداخلي من سرور ممزوج بالخوف من القادم.
كان في استقبالي بمدخل المجلس رئيسه الأستاذ اسغير ولد امبارك.. إنه طالع السعد الميمون بالنسبة لي ..عاد بي شريط الذكريات سنوات إلى الوراء حيث تسلمت منه حقيبة الخارجية..
بعد دقائق كانت مراسم حفل التنصيب بالقاعة الكبرى جاهزة... دخلت القاعة.. تفرست خلسة في وجوه الحاضرين كان من بينهم الأهل والأخلاء والمناصرون والمثبطون .. بل وحتى من تركوني بعدما زال عني بريق السلطة".
تشجعت ووقفت أمام الميكرفون لأداء القسم ..كانت دقائق تنوء بحملها الجبال الرواسي ..شعرت بثقل المسؤولية والأمانة ولكني توكلت على الله ..
عدت للمنزل منتشيا بفرح المنصب الجديد.. كان المنزل يغص بالمهنئين من كل الأصناف ..كل اللحظات كانت ترسم الفرح في كل ركن من المنزل.
في المساء توجهت إلى مقر اللجنة المستقلة للانتخابات ..وجدت حكماءها في انتظاري سبع رجال وثلاث نسوة .. رحبوا بي وتمت تزكيتي بالإجماع في كنف من الود والاحترام والغطبة.
دخلت مكتبي وأنا أشعر بإحساس عجيب وهو أن كل شيء تغير بحياتي في سحر تلك اللحظة .. حينها وجدت نفسي ولأول مرة في حياتي المهنية رئيسا لا مرؤوسا ليس فوقي إلا الله وحده .. هذا التحول الخطير جعلني أرتعد وأرتجف.."
جلست في المكتب وحدي.. أغمضت عيني للحظات وكنت في حوار داخلي عميق مع نفسي فلقت:"استرخ ولا تخف ..إنما الحياة رحلة ..تقدم إلى الأمام ولا تقلق ولا تبتئس بما يريده المثبطون ..قف على قدميك وانهض.. إنها لحظات وهم وخيال.."
لما صحوت من لحظات المونولوج الداخلي بدأ الواقع المرّ يتكشف لي، إنها مسؤولية جسيمة فعلا.. مهلة قصيرة ولوائح كثيرة وخصوم سياسيون في ساحة وغى المواقف المتشرذمة..حتى الطقس ساهم في تعقيد المهمة .. موسم أمطار قريب .. ومناخ سياسي متأزم
بعد انتهاء مرحلة (سني)عاد ولد بلال للحياة السياسية من جديد ضمن جبهة المواطنة والعدالة (جمع) توقا لخدمة الوطن ورحلة مع منعرجات سياسية جديدة ..
الغوص في مسار حياة الوزير والدبلوماسي السابق محمد فال ولد بلال أمر ممتع؛ لكن المزج بين الصورة والظلال أمر صعب .. الصورة مسؤوليات تترى ومواقف صلبة وعقل راجح..
أما الظلال فهي وارفة بتنوع الرصيد المعرفي والتجارب المهنية والتمسك بالقناعات وخدمة الوطن .