ما بعد سباق الرئاسة الأمريكية.. استنتاجات مستقبلية

 

نبيل فهمي/ كاتب 


لفت انتباهى المشهد الاجتماعى والسياسى الأمريكى سريع التغير، والذى تميز بتحولات كبيرة، خلال السنوات القليلة الماضية. إن عدم وضوح السياسة الأمريكية، والاستقطاب الشديد بين المرشحين للرئاسة شجعنى على التطرق إلى السباق الرئاسى لعام 2024، والذى سيُصوت فيه الأمريكيون يوم الثلاثاء الموافق الخامس من نوفمبر، ويدلون بأصواتهم لصالح أحد المرشحين.

على الرغم من التطورات بالغة الأهمية التى حدثت مؤخرًا؛ فإننى أرجأت مرارًا وتكرارًا الكتابة عنها لعدة أسباب. باعتبارى دبلوماسيًا سابقًا، فأنا أفضل فى العموم عدم الانخراط فى تحليلات ما قبل الانتخابات الخاصة بالولايات المتحدة؛ لأن هذا الشأن يُعد شأنًا داخليًا فى المقام الأول. ومع ذلك، ونظرًا لتصريحات الولايات المتحدة المتكررة العامة والخاصة بشأن الانتخابات فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك فى بلدى، فقد شعرت بأننى مضطر إلى تجاوز هذا التفضيل والتعليق فى نهاية المطاف، خاصة فى ضوء العواقب واسعة النطاق التى ستخلفها نتائج الانتخابات الأمريكية على السياسة العالمية.

مشهد معقد:

إن المسائل القانونية المعلقة والمحيطة بالمرشحين الرئاسيين الأساسيين، إلى جانب الوضع الذى لم يتم حله لبقية المرشحين، لم تؤدِ إلا إلى إطالة فترة مماطلتى فى الجلوس بهدف الكتابة. أضف إلى ذلك أن ترشيح ترامب يأتى كمفاجأة محبطة. يواجه ترامب الآن- غير المتسامح والعدوانى تجاه أى شىء لا يخدم مصالحه، بما فى ذلك خسارته بالانتخابات الماضية أمام الرئيس جو بايدن- العديد من المشكلات القانونية، والتى لم يتم حلها إلى الآن، وقد نجا مؤخرًا من محاولة اغتيال فاشلة. ورغم أن الجمهوريين فى حقيقة الأمر لم يقبلوا به، فإنهم يدعمونه مدفوعين بالخوف من موجة الدعم الشعبى التى اكتسبها.

وفى الآونة الأخيرة، تم تأكيد فوز ترامب، وكاد يُتوج كمرشح للحزب الجمهورى. وقد اختار لمنصب نائب الرئيس جى دى فانس، العضو الطموح عن ولاية أوهايو فى مجلس الشيوخ، والذى كان فى السابق أحد أشد منتقدى ترامب (من المعروف عن فانس معارضته الصارمة للمساعدات الخارجية، بما فى ذلك تقديم المساعدات لأوكرانيا)، ولكنه أصبح فيما بعد من أنصار ترامب ومؤيديه الجدد. باعتبار فانس متحدثًا لبقًا يتمتع بشخصية جذابة ومتعددة المهارات؛ فإن بإمكانه حمل راية «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» (MAGA) بعد انقضاء فترة ترامب.

من المفارقات أن الحزب الديمقراطى لم يكن أحسن حظًا من نظيره الجمهورى؛ إذ واجه هو الآخر تحديات كبيرة فى الالتفاف حول مرشحه- الرئيس الحالى بايدن- بعد أدائه الضعيف والمخزى ضد منافسه ترامب فى المناظرة التى أقيمت بينهما فى أوائل يوليو الماضى. وقد تفاقم هذا الأداء الضعيف للرئيس بايدن أثناء المقابلات الباهتة التى أجراها قبل الإعلان عن إصابته بفيروس «كورونا». وعلى إثر ذلك، سرعان ما دعا عدد من الشخصيات الديمقراطية البارزة وجامعى التبرعات الرئيس بايدن للانسحاب. وردًا على ذلك أكد بايدن، ومجموعة قريبة من مستشاريه وأفراد عائلته، نيته الترشح ووضع نفسه ليس فقط كمرشح قادر ولكن أيضًا كمنافس لديه أفضل فرصة لهزيمة ترامب، الذى صوروه على أنه الشيطان، ثم قاموا بعد ذلك بالتخفيف من لهجتهم بعد محاولة الاغتيال التى تعرض لها الأخير.

وفى ظل هذه الظروف، تم النظر فى الخيارات المختلفة لمن قد يكون بديلًا محتملًا وقويًا فى السباق الرئاسى المقبل. وفى النهاية، تم اختيار نائبة الرئيس، كامالا هاريس، كبديل للرئيس بايدن، مع اعتبار حاكم ولاية مينيسوتا، تيم فالز، نائبًا لها. وكان عدد كبير من الديمقراطيين قد امتنعوا فى البداية عن التعليق علنًا، آملين فى حدوث الأفضل، بينما كانوا قلقين بشأن السباق الرئاسى وتداعياته على مجلسى الشيوخ والنواب فى الكونجرس.

وعلى مدار أسابيع، ظلت استطلاعات الرأى متقلبة ما بين بايدن وترامب. ولكن بعد المناظرة ومحاولة اغتيال ترامب بدا أن المشاعر تميل لصالحه. وفى الناحية الأخرى، استسلم بايدن فى نهاية المطاف لضغوط زملائه الديمقراطيين وأعلن امتناعه عن الترشح لولاية ثانية، والآن تضع استطلاعات الرأى هاريس وترامب وجهًا لوجه. ومع ذلك، لايزال من السابق لأوانه تقديم توقعات موثوقة ومبنية على الأدلة حول من سيكون الرئيس المقبل.

نتائج مستقبلية:

بغض النظر عن نتائج الانتخابات وهوية المرشحين، هناك العديد من الاستنتاجات المثيرة للاهتمام، والتى ينبغى للشركاء والخصوم أن يضعوها فى الاعتبار، ومن بينها النقاط التالية:

■ إن الولايات المتحدة تبحث عن هويتها السياسية. فمن ناحية، تجسد بطاقة ترشيح ترامب/فانس شعارًا مناهضًا للمؤسسة وللنخبة. ومن ناحية أخرى، فإن بطاقة ترشيح هاريس/ فالز تمثل العودة إلى السياسة الخارجية الراسخة التقليدية، خاصةً فيما يتعلق بحلفاء الولايات المتحدة.

■ تمر الولايات المتحدة بمرحلة انتقالية، إذ يتزايد عدد الناخبين الشباب والناخبين من أصل إسبانى؛ لذا فإنه فى حالة انتخاب ترامب فمن المرجح أن يخدم لفترة ولاية واحدة فقط مدتها أربع سنوات. أما بقية المرشحين الآخرين، مثل: كامالا هاريس وجى دى فانس، فإنهم ينتمون إلى جيل مختلف، فكلاهما تحت سن الستين؛ مما يشير إلى أن التحول فى العقلية وطريقة التفكير ليس ببعيد.

■ على الصعيد السياسى، أصبحت أمريكا تعتمد سياسة خارجية أقل تدخلًا، على الرغم من أنها تظل أكثر استعدادًا للانخراط فى الخارج مقارنةً بأغلب الدول الأخرى. وسواء فاز ترامب أم أى رئيس ديمقراطى آخر، فسيكون هناك إحجام عن تخصيص الموارد الأمريكية، خاصة ما يتعلق بنشر القوات العسكرية خارج الحدود.

■ ربما يكون ترامب أكثر انفتاحًا على التعامل مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين من هاريس. ومع ذلك فسيواجه أى من المتنافسين ضغوطًا كبيرة لتجنب التورط فى حرب لا نهاية لها فى أوكرانيا.

■ من المرجح أن يرحب حلف شمال الأطلسى بأى مرشح ديمقراطى؛ إذ ينظر إلى ترامب وفانس الجمهوريين على أنهما مثيران للمشاكل بسبب إيمانهما بأن أمريكا تتحمل الكثير من الأعباء بينما يستفيد حلفاؤها.

■ لا يستطيع الديمقراطيون ولا الجمهوريون الانفصال اقتصاديًا عن الصين. ومع ذلك يبدو الديمقراطيون أكثر صرامة، إذ قاموا بالفعل بتنفيذ عقوبات اقتصادية مختلفة فى حين ظلوا رسميًا ملتزمين بسياسة الصين الواحدة. ومن المتوقع أن يثير ترامب قضايا القدرة التنافسية الاقتصادية. وسوف يتمثل التحدى الحقيقى فى رد فعل أمريكا تجاه التوترات المتعلقة بالصين فى الفلبين، وتايوان، وبحر الصين الجنوبى. ومن الجدير بالذكر أن الصين قامت بتوسيع مدى نفوذها تدريجيًا وبشكل متقن.

■ فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن مواقف الديمقراطيين والجمهوريين متشابهة حاليًا إلى حد كبير؛ إذ يقدم كلا الحزبين التزامًا ثابتًا لإسرائيل، على الرغم من عدم ارتياح إدارة بايدن لنتنياهو. ورغم أن كلا الحزبين يفضل حل القضية الإسرائيلية- الفلسطينية؛ فإن أيًا منهما لن يتنازل عن موقفه من أجل الصواب والخطأ؛ ومن ثم فإن حل الدولتين سيظل بعيد المنال، بل وأكثر بعدًا فى عهد ترامب.

■ التوجه العام للمرشح الديمقراطى سوف يتضمن الدبلوماسية الهادئة والناعمة لمنع المزيد من التدهور فى الشرق الأوسط ولتجنب اندلاع صراعات أوسع نطاقًا، وخاصة فيما يتعلق بإيران. وبالمقابل فسوف يستخدم ترامب الدبلوماسية الصاخبة جنبًا إلى جنب مع نهج ناعم لتحقيق أهداف مماثلة.

■ سوف يتبنى كلا الجانبين- الديمقراطيين وترامب- موقفًا قائمًا على الصفقات فى التعامل مع شمال إفريقيا، والشام، والخليج العربى، ومناطق مثل: السودان، واليمن، والبحر الأحمر. وكذلك سيركز الديمقراطيون على مواجهة النفوذ الروسى والصينى، فى حين سيركز ترامب بشكل أكبر على الصين.

■ سوف يكون الديمقراطيون أكثر استعدادًا للانخراط فى الصفقات متعددة الأطراف، سواء من خلال الأمم المتحدة أم غيرها، مثل صفقة استئناف مفاوضات الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا أو الصين. أما ترامب فسيكون أقل ميلًا للمشاركة فى مفاوضات ممتدة ومعقدة. ونظرًا للطبيعة الانتقالية للإدارة الأمريكية المقبلة، فمن غير المتوقع حدوث تطورات مهمة فى هذا الصدد.

فى الختام، فمن الأفضل الآن أن تتواصل الدول المختلفة مع أمريكا، خاصةً أنها تمر بمرحلة انتقالية مهمة؛ تتميز بظهور جيل أصغر سنًا من القادة السياسيين الذين سيتعين على الجميع التعامل معهم مستقبلًا.

* وزير الخارجية السابق

■ يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى

 

نقلا عن المصري اليوم