في بلاط المتتني

 

الحلقة (02)

وقد تعرفتُ عن قرب على شعر المتنبي في وقت متأخر نسبياً، حيث كان أول احتكاك لي بالشعر عن طريق الكُتّاب التقليدي (المحظرة)، حيث بدأتُ بالشعر الجاهلي عبر دواوين الشعراء الستة الجاهليين، كما أسلفت، ومن ثم مقطعات من ديوان الحماسة وبعض الأشعار المحلية، وكانت هذه النصوص تُفرضُ علي فرضاً لا تذوقاً ولا اختياراً مني، عكس شعر المتنبي.
أذكر أن الأديب المازني كتب في "حصاد الهشيم" ملاحظة تصدقُ عليّ أيضاً حيث قال إن ديوان أبي الطيب لم يكن مقرراً عليه ولا في مكتبته حتى، ورغم ذلك فهو يحفظ له أكثر مما يحفظ لأي شاعر آخر!
وفي بيئتي لم يكن ديوان أبي الطيب متداولاً ولا مما يُدرس للصغار في الكتاتيب عندنا، فلم أتعرف عليه إلا وأنا شاب، ولكنه كان عشقاً من أول نظرة كما يقولون، فمنذ أول قراءة لقصائده وأنا مولع بها، حتى إنني حفظت أغلبه من دون أن أدري أو أنوي ذلك! 
بل كانت قصائده لجودتها تفرض نفسها عليّ فرضاً وتظل معششةً في فكري حتى أجدني أرددها وقد حفظتها..
ومن خصائص شخصية المتنبي الظاهرة في شعره هي قوميته البارزة، وتوجعه لما حل بالأمة العربية في ذلك العهد الموسوم بالاضطراب السياسي، حيث استحوذ الأغراب والأعاجم على مفاصل الدولة الإسلامية، وأصبح خلفاؤها خواتم في أيديهم، وكان أبو الطيب يرى ما هم فيه من الذل والتشرذم والاستخذاء، فكان ذلك يؤلمه أيما إيلام، فهناك الديلم والتنوخيون والإخشيد والترك، وكلهم يحكم جانباً من أرض الخلافة، وأخذ أبو الطيب على عاتقه إدالة "دولة الخدم" هذه كما يسميها.
ورغم أن أبا الطيب في بعض يأسه قد مدح بعضَ هؤلاء الأعاجم، مثل الأمير بن طغج وكافور بعد ذلك وغيرهم، إلا أنه كان مدحا أقرب للرُّقى كما قال هو، والمتأمل لقصائده في هؤلاء الأعاجم، يجد فيها كثيراً من الإشارات التي لا تخفى على ذي لب من ذمّ للدهر وأهله، ومن استعلاء وفخر لا يخلو من تعالٍ عليهم، وكان ذلك منه اضطراراً كما أرى، وكما أشار هو، في اعتذاره للأدب والشعر، عندما قال:
وشعرٍ مدحتُ به الكركدنَّ  * بين القريض وبين الرُّقى
فما كان ذلك مدحاً له  *    ولكنه كان هجوَ الورى