د. السيد ولد أباه ـ مفكر موريتاني
لا خلاف على كون الفكرة الليبرالية الحديثة انطلقت من مذهب القانون الطبيعي، الذي يختلف من جهة مع قانون الطبيعة في الفلسفة اليونانية كما يختلف من جهة أخرى عن مقاييس الحق الطبيعي في اللاهوت المسيحي.
القانون الطبيعي من منظور الحداثيين هو الحصيلة المزدوجة لنظام الأفكار الذاتية ومنطق الدولة السيادي الذي هو المرجعية العليا والنهائية لكل معايير التنظيم القانوني والسياسي.
في بعض النصوص، لا يتردد فلاسفة الحداثة السياسية في تعريف القانون الطبيعي بكونه تجسيدًا “للإرادة الإلهية”، وهم في هذا الرأي متأثرون باللاهوت الكلاسيكي وإن كان موقفهم يختلف عن هذا اللاهوت من منظور قدرة الإنسان الذاتية الحرة في التعرف من خلال عقله المحض على هذه المعايير الطبيعية.
ومن هنا ندرك أن الجيل الأول من الليبراليين اعتبر أن هذه الإرادة الإلهية تحضر لدى الذاتية الإنسانية في شكل “شعور أخلاقي” هو حسب السياسي الأمريكي توماس جيفرسون “جوهر الطبيعة الإنسانية”.
بيد أن هذا الرأي ينقسم إلى اتجاهين كبيرين: ذاتي نفعي يركز على المقاييس الأخلاقية ودوافع المصلحة والتعاطف الجمعي، وعقلاني يعطي الأولوية لمدونة حقوق الإنسان وآثارها القانونية الوضعية.
تقوم الأطروحة النفعية على البحث عن الرفاهية القصوى لأكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع حسب مقولة الفيلسوف الإنجليزي جرمي بنتام. ومن هنا الطابع النتيجي لهذه الأطروحة التي لا تنطلق من اعتبارات قيمية أصلية، بل تعتبر المآل والنتيجة المقياس الأوحد لفاعلية وصلوحية الإجراءات والنظم الاجتماعية.
وعلى الرغم من الاختلاف المعروف بين المذاهب النفعية، إلا أنها تتفق في كونها تندرج في نطاق “ليبرالية السعادة” التي تتميز نظريًا وقيميًا عن “ليبرالية الحقوق”.
وفق النفعيين، القانون الطبيعي لا يستند إلى مبادئ عقلانية أولية، بل مصدره هو التجربة الاجتماعية العينية والعملية كما تتحدد أساسًا في النظام الاقتصادي الحر الذي يتمتع بفاعلية ذاتية تكفل له التوازن والاستقرار. ومن هنا التخوف من قوة وتدخل الدولة بصفتها الخطر الأبرز على حرية الإنسان واستقلاليته.
أما العقلانيون، فينطلقون من النظام البرهاني للطبيعة في تصور الحالة الاجتماعية من حيث هي حالة تضامنية تقوم على قوانين دقيقة تكفل للإنسان حريته وكرامته من حقوق استقلال، وملكية، وأمن ومقاومة للتسلط والاستبداد. الدولة وفق هذه الرؤية هي ضرورة حيوية لضمان حقوق الإنسان المحورية، وليست عائقَا أمام حرية الإنسان وفاعليته.
ومع أن المقاربتين تختلفان في المنطق والتوجه، إلا أنهما حاضرتان ضمنيًا بصفة إشكالية متوترة في الأيديولوجيا الليبرالية السائدة. فمن الصعب حسم الجدل القائم بين مركزية السعادة أو أولوية الحقوق في المنظومة الليبرالية، لأن الرفاهية الفردية تظل من الأهداف الثابتة لكل النزعات الليبرالية بما يولد أحيانًا الانطباع برفضها لكل المرجعيات الأخلاقية المقيدة لمنافع الإنسان بما فيها الاعتبارات القانونية الطبيعية، بينما لا معنى لهذه الرفاهية ولا أثر لها من دون النظم الحقوقية الملزمة التي هي شرط ضمان حرية الإنسان وكرامته.
إن هذه الإشكالية المعقدة التي تقوم عليها الفكرة الليبرالية تطرح ثلاثة أسئلة كبرى، تشكل اليوم جوهر النقاش حول الإرث الليبرالي:
أولًا: هل يمكن الجمع بين الرفاهية من حيث هي قيمة فردية عليا والعدالة التي هي المضمون المعياري للقانون الطبيعي في دلالته العقلانية الثابتة، بغض النظر عن الخلفيات العقدية والإيديولوجية لفكرة العدالة؟ لقد قاد هذا الإشكال الفكر الليبرالي من جون ستيوارت ميل إلى جون رولز إلى تجاوز النزعة النفعية التقليدية التي تماهي بين لذة الإنسان وحقوقه الطبيعية دون مراعاة لإكراهات المسألة الاجتماعية، أي اعتبارات التضامن والإنصاف في توزيع الموارد المادية والرمزية بين أفراد المجموعة الوطنية.
ثانيًا: ما هي المنزلة الابستمولوجية والقيمية لمدونة الحقوق الطبيعية، ما دامت سقفًا معياريًا أعلى مفروضًا على ذاتية الإنسان وعقله، بما يقيد حريته واختياره؟ أما إذا كانت حصيلة اختيارات حرة فما الذي يضمن صلابتها المفهومية عقليًا ووجوديًا، بل ما الذي يضمن استقرارها وثباتها في حال كونها مجرد توافقات عقدية محدودة وظرفية؟
ثالثًا: لقد افترضت النظريات الليبرالية في مجملها وضعًا أصليًا أو حالة طبيعية ما قبل اجتماعية لتبرير الانتقال إلى النظام السياسي للدولة المدنية الحديثة، لكن السؤال المطروح هنا هو: ما هو الدور المنوط بهذه الدولة الضرورية: هل يكون مجرد تنظيم الحريات الفردية وضمانها بما يعني عمليًا العودة إلى نوع من حالة الطبيعة المنظمة أم يكون الغرض منها هو التدخل لفرض رفاهية الإنسان وحقوقه بما يتعارض مع المنطق الليبرالي نفسه الذي هو تقليص دور وحضور الدولة للحد الأدنى؟
لا تبدو هذه الأسئلة مطروحة بقوة ودقة لدى التيار الليبرالي العربي، الذي لم يسع في الغالب لبناء مقاربة سياسية متناسقة لثنائية الفرد والدولة في السياق العربي.
لقد تأرجح الليبراليون العرب بين اتجاه ركز على قيم الحرية الفردية في مواجهة النظم العصبية والدينية المسيطرة دون اهتمام جوهري بمدونة الحقوق القانونية والمدنية، واتجاه آخر ركز اهتمامه على منظومة حقوق الإنسان يتوظيفها في الصراع السياسي والإيديولوجي القائم.
ومن هنا غابت الأسئلة الجوهرية المتعلقة بمحددات الرفاهية والحقوق، نتيجة إهمال فلسفة القانون الطبيعي التي هي منطلق النظرية الليبرالية في عمومها.
في السبعينيات، حاول الفقيه والسياسي المغربي علال الفاسي تأصيل أطروحة القانون الطبيعي من منظور منهج المقاصد والمصالح المرسلة في أصول الفقه الإسلامي، في مسعى واضح للدفاع عن الفكرة الليبرالية من منطلقات إسلامية شرعية.
بيد أن هذا النهج لم يستمر بعد علال الفاسي، وما حدث هو أن الأطروحة المقاصدية وظفت في اتجاه مغاير في خطاب الإسلام السياسي السائد واعتبرت أساس رؤية للعالم بديلة عن الحداثة الليبرالية وفي قطيعة كاملة معها. وهكذا أقصيت المسألة الليبرالية من الفكر العربي، واختزلت إما في الأجناس الأدبية والنقدية الثقافية أو في النشاط المدني لجماعات وروابط حقوق الإنسان، وبقيت جوانبها الفلسفية والاجتماعية العميقة غائبة أو مهملة.