أزمة ثروتنا الحيوانية: مظاهر الإشكالية ؟ ومسالك الحلول (1)

يحيي بن بيبه

يطرح الإرتفاع المتزايد لتكاليف تغذية ورعاية حيواناتنا المحلية، مع ضعف إنتاجيتها، أسئلة صعبة، حول مدى مردوديتها الاقتصادية. 
فما مظاهر ضعف هذه الإنتاجية ؟ وما الحلول المتاحة للتغلب على هذه الإشكالية الجوهرية، التي تهدد ثروتنا الحيوانية ؟  
إذا كان متوسط الإنتاج اليومي للبقرة المحلية من الحليب يحوم حول ثلاثة لترات، فإن المتوسط اليومي لإنتاج بقرة لفريزيان في أوروبا، خلال الولادة الأولى (الأقل حليبا)، يبلغ نحو ثلاثين لترا.
بل إن بقرة الجيريلاندو البرازيلية، المتربعة على عرش موسوعة جنس للأرقام القياسية، سنة 2020، وصلت إلى إنتاج 124 لترا من الحليب يوميا.
وإذا كانت العجول المحلية، المفطومة بعمر سنة، يصل وزن الواحد منها في المتوسط إلى نحو 65 كيلو غراما، فإن هذا لا يتجاوز نصف وزن ذكر ماعز ابوير العالمي، بعد عام واحد من ولادته ...! 
أما أبقار اللحم العالمية، فلا مجال للمقارنة معها، إذ يصل الذكر منها وزنا نهائيا، يزيد كثيرا على الطن.
ويزيد من صعوبة وضع ثروتنا الحيوانية، الارتفاع الشديد في أسعار العلف، التي وصلت أواخر الصيف الماضي إلى نحو 340.000 أوقية للطن (الكتان).
يضاف إلى هذا، الارتفاع المتزايد لتكاليف معيشة المنمين، وعائلاتهم، مما يجبرهم على هجر هذه المهنة الحيوية، إذا لم يكن هامش العائد الاقتصادي الناتج منها، يكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية لأسرهم.
ويتحدث بعض مسؤولينا عن زراعة الأعلاف الخضراء، كحل لهذه الإشكالية.
وهو حديث يعكس الجهل بجوهر الإشكالية.
إن التجربة التي واكبناها في شركة ثمار الزراعية، التي كنا أحد مؤسسيها، توضح بما لا يدع مجالا للشك، أن العائد المالي الضعيف من الأبقار، لا يكفي لتغطية تكاليف زراعة الأعلاف الخضراء، حيث بقي ما قيمته نحو خمسين مليون أوقية قديمة من الأعلاف الخضراء، من غير مشترين، داخل مخازن الشركة، لمدة سنة، برغم خفض سعر البيع إلى نحو نصف التكلفة، وبرغم ثقة المنمين بهذه الأعلاف الخضراء، التي جربوها، وأشادوا بنتائجها الممتازة على حيواناتهم، حليبا ولحما.
ذلك أن العوامل الوراثية البدائية لأبقارنا، لا تتلاءم مع أساليب التربية الحديثة.
فما هو الحل إذا لإنقاذ ثروتنا الحيوانية، ومئات آلاف الأسر المعتمدة عليها، بشكل مباشر أو غير مباشر ؟ 
الحل قريب، ويسير، ومضمون، لكن خطى الحكومات إليه ما تزال معدومة، أو متثاقلة وبطيئة.
فلا مجال لإحداث نقلة نوعية في إنتاجية حيواناتنا، من دون تحسين عواملها الوراثية.
ويكون ذلك عن طريق خطوتين متزامنتين، إحداهما سريعة النتائج، والأخرى بطيئتها.
الخطوة الأولى، هي وضع برنامج متسارع، ذي مراحل محددة، لتلقيح نسبة مائوية معتبرة من أبقارنا (الربع مثلا) بنطف من ثيران سلالات متفوقة عالميا، وهو ما يعرف بالتهجين.
وستعطي إناث مواليد الجيل الأول الهجين، الناتج من هذه العملية، ما يقرب من عشرين لترا يوميا، إذا أحسنا اختيار الثيران والسلالات، وذلك في ظروف التغذية الجيدة. 
ولا نتحدث هنا عن تخمينات أو تقديرات، وإنما عن قواعد ثابتة في علم الوراثة، لا مجال للتشكيك فيها، إذ يعطي الجيل الهجين إنتاجا متوسطا بين الأبوين، وذلك في كل الصفات الإقتصادية مثل: كمية الحليب وسرعة النمو والوزن النهائي ... الخ.
ولا تقتصر مميزات الجيل الأول الهجين على مضاعفة الإنتاج اليومي من الحليب أربع مرات أو خمس، مقارنة بالأمهات المحلية، بل إنها تتجاوز ذلك إلى سرعة النمو اليومي، والولادة الأولى المبكرة، إذ تلد عجلات الأجيال الأولى المهجنة، قبل أن تصل الثلاثين شهرا من عمرها، بدلا من ستين شهرا، التي هي غالبا عمر العجلات المحلية عند الولادة الأولى. 
كما تتميز الأبقار الهجينة بصفات أخرى كثيرة، يضيق المجال عن تفصيلها، كوداعة الطبع (التهدان)، وطول فترة الحلب، مع إمكانية حلبها من دون عجولها، وهي أمور جربناها ميدانيا أكثر من مرة.
وخطوة التهجين هذه تقوم بها حكوماتنا، بسرعة السلحفاة، منذ نحو عشرين سنة، لكنها لم تنتج إلا نحو خمسة آلاف ولادة كل هذه المدة، وذلك بسبب انخفاض سقف الطموح، وعدم وضوح الرؤية، والفساد المصاحب للعملية، من حيث مستوى اللقاحات، وظروف تخزينها، ونسب نجاحها المتدنية.
كما أنه لم يتم اختيار سلالة ملائمة لظروف الحرارة العالية، والرطوبة الجوية المرتفعة، كسلالة الجيريلاندو البرازية، المصممة للمناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، وإنما تم التركيز على سلالة لفريزيان (الهولشتاين)، أضعف السلالات الأوروبية، وأقلها مقاومة للحرارة العالية.
أما الخطوة الثانية، الضرورية لتطوير العوامل الوراثية لأبقارنا، فهي بدء برنامج للتحسين الداخلي، يعتمد على اختيار أفضل أفراد القطعان للتكاثر، انطلاقا من سجلات نسب مضبوطة بدقة، كما هو معروف عند المختصين.
يضاف إلى هاتين الخطوتين الأساسيتين، بدء نشر ثقافة زراعة الأعلاف الخضراء، عن طريق مساعدة المنمين في إنشاء مزارع صغيرة للأعلاف الخضراء، تسمح ببلوغ الأجيال الهجينة الأولى، حدود عواملها الوراثية القصوى.
وما قلناه عن ثروتنا من الأبقار، ينطبق تماما على ثروتنا من الإبل.
فهل تفعلها حكومتنا الحالية ؟ أم أنها ستسلك نفس مسار السياسات المتخبطة، التي سلكتها حكوماتنا السابقة ؟  
عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده
  
يحيي بن بيبه
رئيس مركز الإحسان للتهجين 
[email protected]