الإعلامي : محمد ولد حَمدو
إعداد: محمد ولد سيدناعمر
ضيفنا في الحلقة الأولى من هذا الركن إ علامي مقتدرٌ وشاب عصاميّ، تخرج من أشهر معهد للإعلام في شمال أفريقيا بـ"تونـس"
عمل لسنوات طويلة في الإعلام المحليّ ثم الدوليّ لاحقا..له قلم سيال وخبرة واسعةٌ في شتّى الأنماط الصّحفية..زار معظم ولايات ومدن الوطن..صاحب تجارب طويلة مع الأسفار الخارجية؛ وقد دوَّن بقلمه الرشيق عن تلك الرحلات التي أملتها "مهنة المتاعب"
يعمل حاليا رئيس تحرير بمحطة ميدي 1 TV.. تحدث ضيفنا عن ذكريات أول رمضان صامه وخصّ ثلاث محطات بارزة منها..
لمزيد من التشويق نترككم صحبة الإعلامي الكبير محمد ولد حَـمْــدُو وذكرياته الرمضانية الرائقة.
**
آه يارمضان..كم هي الصور التي تتدفق حين أستعيد ذكرياتي عنك؟!! لا أتذكر متى عرفت رمضان، أو سمعت به على الأصح!! ربما يكون ذلك في نهاية السبعينات، وأنا حينها في ميعة الطفولة الأولى، ولا تحتفظ ذاكرتي بشيء محدد من ذلك، سوى ساعات طويلة بدون أكل، تتخللها قراءة من حولي من الكبار للقرآن والأذكار والابتهالات.
وقبل الغروب تدِبّ الحركة في البيوت لتحضير الشراب والشاي والطعام، ثم يداهم النعاس عيوننا نحن الصغار مع حلول الظلام، فلا نعرف من رمضان سوى ذلك.
شراب يُسبِّبُ العمى!
بعدها ستنطبع في الذهن صور أخرى عن رمضان، أولها ذلك الشراب البارد"الزريق" العذب، الذي يعد للصائمين بعد يوم حار وطويل، وكان يحظر علينا نحن الأطفال بكل الحيل، وكان ذلك المنع يلف بغطاء مخيف، فقد أوحوا لنا بأنه يسبب العمى ـ مثلا ـ لذا كان أغلبنا يتجنبه رهبة، ولو أن من بيننا من كانوا لا يعبؤون بذلك، فيستغلون انشغال الكبار بالصلاة، ويعبوا منه على عجل!!
أما الصورة الأخرى، فهي ساعات لعب طويلة تحت ضوء القمر، كان يتيحها الانتعاش النسبي للحياة الليلية خلال الشهر في تلك الأرياف الهادئة، وبتسامح أكبر من لدن الكبار مقارنة بباقي شهور العام.
"تــيــزكـــرار"
وكانت "تيزكرار" أي صلاة التراويح، ثالث الصور، وكانت حينها تسمى كذلك، ويا للمفارقة في "تلك الربوع الأكثر عروبة من بين ربوع الأمازيغ" كما وصفها أحد الكتاب في تأبين أحد أبناء المنطقة التي بقيت رغم "تعربها" وانغماسها في الثقافة العالمة متمسكة بشيء من ثقافة وتراث الأمازيغ!
وكان لا فتا طول صلاة "تيزكرار" مقارنة بالصلوات المألوفة، وما كان يحيطها من أجواء روحانية تطبع المكان بقدسية، كنا نحسها دون أن ندركها تماما.
ولم يكن يهمنا منها سوى انشغال الكبار عنا، وتركهم لنا أحرار نتحرك في الحي أطول وقت ممكن.
"ليلة طلب الغفران"
كانت قمة الإثارة في رمضان حين تحل "ليلة طلب الغفران" فنطوف مع غروب شمس اليوم السابع والعشرين على البيوت طلبا للغفران..وكنا نحرص على أن نكمل جولتنا قبل صلاة العشاء، وقبل أن تحكم ظلمة الليل الحالكة قبضتها.
وتتملكنا في تلك الليلة عادة مخاوف وهواجس، ربما تعود إلى التصور الشائع وقتها أن الشياطين التي تصفد منذ بداية الشهر المبارك، كانت تطلق في تلك الليلة، ومما يزيد من رهبة الظرف علاوة على انطلاق الأرواح الشريرة من أصفادها، أن الظلام في الليالي الأخيرة من الشهر القمري يكون حالكا تماما.
سيتاح لنا لاحقا بعد أن كبرنا قليلا، أن نشارك في مراسم ختم القرآن، ونحصل لذوينا على حصتهم من "ماء الختمة" الذي يوزعه إمام التراويح في الليلة السابعة والعشرين، وفق طقوس خاصة.
اعتمادي من الصائمين
سيخطو بي الزمن، وأتعرف على صور جديدة من رمضان، وأكون في عداد الصائمين، فقد استصدرت ذات يوم لنفسي حق الصوم، وانتزعت مرسوم اعتمادي ليتسنى لي أن أستمتع بما يحظى به الصائمون من طعام وشراب، دون الحاجة إلى مراوغة، أو محاولة خداع الرقابة أو انتهاز فرصة انصراف الكبار للصلاة!!
ستصل تلاوة القرآن وبرامج رمضان الإذاعية آذاننا بعد فنعتاد أحاديث الإفطار، خاصة بصوت المرحوم محمد محفوظ ولد محمد الأمين ذي النبرة الحميمية الأليفة.
كان رمضاننا في تلك الحقبة البعيدة نهاية السبعينات وفجر الثمانينات وحتى نهايتها شيئا مختلفا تماما عما نعرفه اليوم.
ستتسع المائدة الرمضانية وتتنوع مكوناتها، خلال التسعينات في أغلب مدن البلاد، وستزدهر البرامج التلفزيونية والإذاعية الخاصة بالشهر من مسابقات وفقرات ترفيهية وتوجيهية وتثقيفية، وستحتل العيون والأسماع "دراما رمضان" كما تعرف اليوم.
وسيتاح لي أن أرى كل ذلك التحول، بل وسأجد الفرصة لأعيش أجواء رمضان في حواضر إسلامية عريقة، وفي بلاد بعيدة، لكن صورة رمضان ما زالت بالنسبة لي ذلك "الزريق" المسبب للعمى وتلك الـ"تيزكرار" التي ينساب معها صوت القرآن عذبا رقراقا.فيما تتناهى إلى السمع من بعيد أصوات أطفال يلعبون تحت ضوء القمر لعبة "نقاش" الشعبية ذائعة الصيت لدى أجيال ما قبل الألعاب الإلكترونية!!