د. إبراهيم ولد الشيخ سيديا
إعداد: محمد ولد سيدناعمر
أحن إلى ذكريات رمضان حيث لا عولمة ولا مفاسد عبر الصبيب الإعلامي المدمر، بل التآخي والتآزر والقناعة وراحة البال..
بهذه الجمل بدأ ضيفنا الدكتور اللغوي الأكاديمي ذكرياته عن أرمضة أيام "الزمن الجميل" ببتلميت.
عاش ضيفنا ردحا طويلا من الزمن في الغربة ولكن الحنين إلى طقوس رمضان في الوطن ظلت محفورة على جدران ذاكرته.
صور كثيرة تزدحم في ذاكرة ضيفنا عن رمضان في الوطن جدته الحنون صوت أحمد سالم ولد امحيميد وهو يرفع عقيرته بالأذان ..ثم في أجواء الغربة التي حاولت إغواءه لكن حب الوطن لم يبارح قلبه.
نسعد باستضافة الدكتور: إبراهيم ولد الشيخ سيديا في حلقة جديدة من "ذكريات مع رمضان"
حنين لا ينطفئ
أحنُّ دائمًا إلىالذكريات الجميلة وخصوصًاما ارتبط منها بشهر رمضان المبارك، ومازلت أتذكر جيّدًا أجواء أرمضة صُمتها في مناطق مختلفة من الوطن، وتحتفظ ذاكرتي بصور جميلة لها لم تنسنيها غربتي القسرية التي صُمت خلالها نحوًا من ثلاثين رمضانًا خارج أرض الوطن.. حاولت ظروف الحياة خلالها إغرائيواستهوائي لكن قلبي ظلَّ معلقًا بالوطن الأول، مرددًا مع الطائي أبي تمام قوله
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنزِلِ
مع عودة شهر رمضان تُستعاد الذكريات، فالزمن يواصل مسيرته، وبين رمضان ورمضان يتغيّر المجتمع إمّا تطوّرًا أو تقهقرًا، وتندثر عادات وتقاليد أو تكاد، ويُسدَل ستار الموت حاجبًا عنّا أحبّاء كانوا قرّة عين لنا
ومسرّة لنفوسنا، تغمّدهم الله بواسع رحمته.. عودة رمضان مدعاة لاستثارة الذكريات التي كلّما امتدّ العمر ازدحم سجلّها.
سَقَى الله أيّامَ الصّبَى ما يَسُرّهَا
وَيَفْعَـــلُ فِعْلَ البَابِلــيّ المُعَتَّقِ
وذكريات رمضان تتشابه فيها العادات والتقاليد المرتبطة به في كل مناطق الوطن تقريبًا..فقد صمتُ رمضان في مناطق مختلفة من وطننا العزيز.. في بواديه وقراه ومدنه.. ووجدت في كل من تلك الأماكن أن مَقدم الشهر الفضيل يرتبط بمشاعر حبور تختزنها ذاكرتي وتستحضرها بمناسبة حلوله، فأتذكر تلك الأجواء الروحانية التي تغمر المنازل والمساجد والأسواق؛ فلشهر رمضان وقع خاص، وله طقوس وفعاليات جميلة نستشعر من خلالها قيمته وقدسيته وروحانيته التي تعزّز في نفوسنا العلاقات العائلية والتواصل والتكافل الاجتماعي..كما تضفي على موائدنا روائح الأكلات اللذيذة التي يكون للجيران نصيب منها.
لقد كان رمضان يُشيع في حياتنا نظامًا يبعث على الطمأنينة والأمن.. كنا نستقبله بنفوس عامرة بالإيمان مترفّعة عن الدنيا.. وهناك بكل تأكيد فروق بين الحاضر والماضي، بالرغم من كونهما ليسا عالمين منفصلين تمامًا، بل إن الصلة بينهما قوية لكن هناك مفاهيم وتصنيفات جديدة.
مَثَّلْتُ في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكرياتُ صَدَى السنينَ الحاكــــي
جدَّتي الحـنُـون
ما أجمل ذلك الزمن الذي كانت فيه الإذاعة جزءًا أصيلًا من أماسي رمضان وسهراته.. تعود بنابرامجها إلى الطريق السوي.. دروس دينية وبرامج مفيدة.. مازال "دعاء الإفطار" يرنّ في أذني بصوت الشيخ محمد محفوظ ولد محمد الأمين، يرحمه الله.. أما الشيخ القارئ محمد لغظف ولد محمد سيدي، متعه الله بالصحة والعافية، فقد أضحى صوت تلاوته القرآنَ يرجعني مباشرة إلى أجواء رمضان في ربوع الوطن الحبيب..
وحين تُستعاد ذكريات رمضان في «بوتلميت» فلا بدّ من تذكّر جدّتي الحنون زينب بنت طفّى، رحمها الله كما ربّتني صغيرًا، فقد تعهّد تني يافعًا مرشدة ومربّية ومنشِّئة على القيم النبيلة ومكارم الأخلاق، وفي كنفها صمتُ أوّل مرة.. كما لا بدّ من استرجاع صوت المرحوم أحمد سالم ولد امحيميد، وهو يصدح بالأذان معلنًا وقت الإفطار.. وصوت المرحوم عبد الله العتيق ولد أحمد زايد، يجوب المدينة الوادعة رافعًا عقيرته بعبارة "سحّروا يا عباد الله فإن في السحور بركة".. أما صلاة التراويح خلف الإمام القارئ: العالم ولد ألفغ المصطفى، فإن لها تأثرًا روحانيًّا لم أجد له مثيلًا بعد ذلك.
الصندوق السحري
مع انتقالي إلى العاصمة تغيّرت بعض مشاهد رمضان وإن بقي الإطار الناظم لها محافظًا على روحانيته.. أصبحنا نتحلّق في رمضان حولجهاز التلفزيون الوحيد في البيتالذي لا يلتقط سوى البث الأرضي وكانت برامجه هادفة.. أما اليوم وبعد أن تسيّد البث الفضائي فقد أصبح شهر رمضان موسمًالبث المسلسلات الهابطة والأغاني الماجنة، أما البرامج الدينيةفليس لها حضور يُذكر في أغلب وسائل الإعلام إذا ما استثنينا قلة قليلة منها.
إنه فعلًا حنين إلى الزمن الجميل، حيث لا عولمة ولا مفاسد عبر الصبيب الإعلامي المدمّر، بل التآخي والتآزر والقناعة وراحة البال.. نوم مبكّر، ومدارس عمومية تضمن وحدها تكوينًا ذا مستوى رفيع مقارنة بمستويات اليوم.. وقد تزامنت فترة التطبيق المتوّجة لتخرّجي من مدرسة تكوين المعلمين في انواكشوط مع شهر رمضان، وكان من حُسن طالعي أن وُجّهت للتطبيق في المدرسة رقم (2) في لكصر، فكنتُ بعد انتهاء الفترة الصباحية أتوجّه رأسًا إلى مسجد الشيخ بدّاه لأصلي خلفه الظهر وأقضي في حضرته ما قبل استئناف فترة الدراسة المسائية في المدرسة المذكورة آنفًا.
بطعم الاغتراب
ومنذ غادرتُ الوطن قبل نحو من ثلاثين سنة لم يعد شهر رمضان هو ذاك الشهر الخاص الفريد بطقوسه وتقاليده في «بوتلميت» ولا في «انواكشوط» أو «كيفة»،تلك المظاهر التي عشتها في طفولتي وصباي وجزء من الشباب ظلت محفورة في ذاكرتي وباقية في الوجدان، لكنني على مدار السنوات التي عشتها في الغربة يهلّ الشهر دونما شعور بذلك الفرح الذي هو جزء من سيرتي. ومن عاش تلك الأيام الجميلة يعرف الفرق بين رمضان الأمس ورمضان اليوم