الإسلام السياسي في موريتانيا، مكامن القوة ومظاهر الضعف

 الشيخ عبدي ولد الشيخ

لا نسعى في هذه العجالة إلى تعميق البحث في العنوان أعلاه وإنما نروم على وجه الإيجاز تسجيل مانراه ملامح قوة ومظاهر ضعف في تجربة الإسلام السياسي الموريتاني الذي كانت نشأته الأولى في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي حين التقت رغبة النخب الدينية الأهلية المتذمرة من مظاهر الفساد الأخلاقي في العاصمة، وضعف إن لم نقل انعدام اهتمام دولة الاستقلال بالحقل الديني، بطموحات الشباب المتأثر بأجواء وأدبيات الصحوة الإسلامية التي أخذت في التدفق بعد التحاق طلاب موريتانيين بجامعات مشرقية ومغاربية. نشأ من هذا الالتقاء تيار إسلامي لا نبالغ إذا قلنا إنه بفعل عوامل كثيرة أصبح  القوة السياسية الأكثر حضورا في المشهد السياسي والدعوي  الموريتاني، فهو الفصيل  الأكثر الآن تمثيلا في البرلمان، بعد حزب السلطة، وكذلك الحال  في المجالس البلدية والجهوية، مما خوله زعامة المعارضة منذ انتخابات 2013، وهو أيضا الأكثر حضورا في ساحات العمل الجمعوي والدعوي، إذ لديه شبكة من الجمعيات والهيئات تنشط في مجالات العمل المدني والحقوقي،  والتعليم والثقافية والتربية،  والعمل الإغاثي والخيري، وله حضور فاعل في الحركة الطلابية والنقابية، وهو حاضر بقوة في الإعلام المرئي والمكتوب،  ويشارك مناصروه  فيما يدور من نقاشات حول الشأن الوطني على منصات التواصل الاجتماعي.
ولئن كان توسع التيار الإسلامي وتمدده مما يسوغ موضوعيا الاهتمام ببحث إرهاصات وسياقات نشأته وتطوره فإنه يدفع أيضا إلى التوقف قدر الإمكان مع جوانب الضعف والقصور، وملامح القوة والتميز.

أولا: مكامن القوة:

1.    الوعي المبكر بالمأسسة

يدرك المهتم والمتابع للحالة الإسلامية الموريتانية أن المؤسسين للحركة الإسلامية في موريتانيا أصحابُ مستويات عمرية واجتماعية وعلمية متقاربة، فهم أبناء مجتمعات زاوية تلقوا معارفهم الشرعية في المعاهد الدينية الأهلية، (المحاظر) وتخرج أغلبهم من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، ومدارس تكوين المعلمين والأستاذة، واشتغل برهة من الزمن بالتدريس في المؤسسات التعليمية، وهم إلى ذلك متقاربون من الناحية العمرية إذ و لد أغلبهم في أواخر الأربعينيات وبدايات الخمسينيات، وقد كان لهذا التقارب أثر كبير في أن تكون الحركة الإسلامية الموريتانية "حركة أنداد" لم تعرف زعيما مؤسسا تمنحه شرعيةُ التأسيس وضعَ القائد المطاع، وقد منحها هذا الحال وعيا مبكرا بضرورة  اعتماد مبدإ التناوب السلمي على قيادة الحركة التي ظلت مأمورية الأمير فيها  خلال السنوات السبع الأولى من تأسيسها لا تتجاوز سنة، فتعاقب على قيادتها كل المؤسسين لها تقريبا، وكان من حسنات هذ التناوب أنه لم يترك فرصة للتحكم في قيادة الحركة، فكلما صعد قيادي إلى إمارة التنظيم، وبدأ يُوجِّه ويخطط، عاجله انقضاء مأموريته ليحل محله أمير آخر، وهذه الحرص على المأسسىة، والابتعاد عن خلق الزعامات وإن كانت له بعض النتائج السلبية إلا أنه منح الحركة فرصة تجديد دمائها من حين الآخر، فالجيل المؤسس للتيار الإسلامي لا وجود له اليوم في أطر التيار ولا في شبكاته، لقد أجبر أو رغب في التقاعد المبكر، وحلت محله طليعة من الشباب قفزت إلى قمرة القيادة في ظروف استثنائية، خضعت فيها الحركة الإسلامية لعملية قيصرية، ليس هذا مجال إيفائها حقها من البحث والتحليل.
 ويبدو أن الرغبة التي تملكت الجيل الثاني (الجيل المؤسس لتواصل) في إبعاد الشيوخ تسربت عدواها إلى الصف الثالث الذي بدأ يمسك بزمام الأمور داخل تواصل الذي هجره العديد من رموز الجيل الثاني طوعا أو كرها
لم تتم هذه العملية في جو من الشقاق والتدابر فيما يبدو، بل بسلطة النص، وقوة القانون ور سوخ ثقافة التداول بصرف النظر عما يمكن أن يجره هذا التداول من صعود أصحاب التجربة الناشئة والكفاءة المحدودة.

2.    النقد الذاتي للتجربة.

كان من حسنات الوعي المبكر بالمؤسسية شيوع مستوى من الانفتاح على أفكار وتجارب إسلامية مختلفة في وقت مبكر نسبيا من عمر الحركة،  وهو انفتاح كانت له بالفعل نتائج غير محمودة على المستوى التنظيمي لكنه كشف عن رغبة لدى بعض قيادات التيار الإسلامي   ونشطائه في تجديد خطاب الجماعة المؤسِّسة ونقد أدائها، كما كشف أيضا عن حصافة المؤسسين في التعامل بالحسنى مع الشباب الثائر على النهج أو على الأقل مع من أبدوا استعدادهم للنقاش، وقد كتب المتذمرون وثيقة بسطوا فيها رؤيتهم لواقع الحركة  حملت عنوان: العمل الإسلامي في موريتانيا تحليل وتقويم،( 1986)   
شخصت الوثيقة معضلة العمل الإسلامي الحركي منذ انطلاقه، متناولة ثغرات التجربة، ومكامن الخلل فيها وتحدثت بإسهاب عن جملة من القضايا أهمها: ارتهانُ المؤسسين لخلفياتهم الاجتماعية، غيابُ الرؤية التنظيمية، محدودية التكوين، ضعف الأداء السياسي،  العجز عن بلورة رأي حول القضايا الوطنية، ترهل الأداء الخارجي، عدم الاهتمام بالقضايا الإقليمية والدولية،
كانت هذه النقاط السبع محل نقد من لدن الوثيقة التي أنجزها الشباب المتذمرون من وضع التجربة، ورغم أنها أحدثت شرخا في تماسك جسم الحركة إلا أنها كشفت رغبة الشباب في تصحيح المسار، وقدرة الشيوخ على الاستماع واحتواء جل العناصر في أطر تنظيمة موازية، ولئن نجحت التجربة في احتواء الأزمة إلا أنها أخفقت في اجتثاثها.

3.    الاستثمار في الإسلام الأهلي :

 رغم حضور مؤثرات خارجية عديدة في نشأة الإسلام السياسي المحلي إلا أن التكامل بينه وبين الإسلام الأهلي كان له أثره البين على مسار الحركة في مرحلة مهمة من تاريخها، فالقيادات التي أشرفت على التنظيم الإسلامي قبل 1994 حرصت على بناء علاقات جيدة مع رموز ومؤسسات الإسلام الأهلي، فلم تعمد إلى مواجهة التصوف، ولا إلى إعلان مواقف حدية من المنظومة المعرفية ذات الأضلاع الثلاث: فقه مالكي قاسمي، وعقيدة أشعرية وتصوف جنيدي، وقد كانت الجمعية الثقافية الإسلامية التي أسسها فقهاء وقضاة محسوبون على التيار الأهلي الإطار القانوي الذي تمددت بوسائله الحركة الإسلامية المعاصرة، فكانت مقراتها تحتضن الاجتماعات التنظيمية السرية، وكانت بعثاتها في الداخل أداة الاتصال بالمجتمع، وكانت أيضا الوسيلة الأهم لمخاطبة المسؤولين في الشأن العام. 
لقد أحسن الإسلاميون الأوائل استثمار هذه العلاقة، وبنوا صلات جيدة مع رجال أعمال محليين سخروا أموالهم لخدمة أهداف الجمعية ورسالتها، ولولا الاستثمار الجيدُ لهذه العلاقة لتعثر المشروع الإسلامي الحركي مبكرا. وقد ساءت العلاقة مع الإسلام الأهلي منذ اعتقالات 1994 التي أسفرت عن حل الجميعة الإسلامية  ودشنت حالة من ضعف الثقة واهتزاها في صفوف الإسلاميين.

4.    البحث الدؤوب عن الشرعية
 والميل الدائم إلى السلمية :

 بالرغم من أن الدولة لم تعترف بالوجود القانوني للإسلاميين إلا أواخر 2007، أي بعد مرور زهاء عشرين سنة على وجودهم في الساحة،  فإن الإسلامين ظلوا رغم تصلب النظام العسكري أمام مطلب الترخيص حريصين على تحقق هذا المطلب الذي سارعوا إلى المطالبة به فور إعلان نظام ولد الطايع التعددية الحزبية 1991، حاولوا تشكيل جبهة إسلامية تضم مختلف الفاعلين في المشهد الديني فرفضت السلطة، تقد موا بمشروع حزب الأمة، فكان مآله الرفض المطلق لأسباب حصرتها الداخلية في ثلاثة أسباب تدور كلها حول الصبغة الإسلامية للحزب شعارا ووثائق ورموزا،  حاولوا الدخول في تشكلات حزبية فمنعت تلك التشكلات من الترخيص بحجة وجود عناصر إسلامية فيها.
     لم يفلح تصلب السلطة واستفزازها في عدول الإسلاميين عن الخيار السلمي ر غم حدة المواجهة في السنوات الأخيرة بينهم وبين ولد الطايع، وهذا التمسك بالخيار السلمي منح الإسلامين ثقة شركائهم في العمل السياسي المعارض، وتضامُن الرأي العام مع المظلمة التي عاشوها، أواخر عهد ولد الطايع، والإحساس بالزهو بكسب المعركة حين تمت الإطاحة بالرجل في أغسطس 2005.
ولم يكن ملف الشرعية القانونية هو وحده ما يقض مضاجع الإسلاميين بل أخذ موضوع الشرعية الرمزية قسطا من اهتماهم بعض الشيء، إذ نجد أن التنظيم الذي نشأ في أكناف محظرة الشيخ بداه رحمة الله عليه واستفاد من رعايته الأبوية ظل حريصا على أن يكون في صدارة صفوفه عالم ضليع  يتمتع بالشرعية الاجتماعية والدينية اللازمة، ترعاه الحركة وتؤطره وتدور حوله،  وقد حاولت بعض العناصر الحركية أن يكون بداه  صاحب هذا الدور، إلا أن الشيخ الوقور ظل دائما حريصا على أن يكون  مرجعا للجميع، وفي ظل البحث عن رجل علم يقود المسيرة خاطبت الحركة الإسلامية الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله نثرا ونظما من ذلك قول أحد رجال جيل التأسيس:
أسالم هذي جموع حيارى    **    تحت حكم الضلال ظلوا أسارى
نام إسلامهم فأيقظه فيهــم    **    وخـــــبتْ ناره فأشــعله نـارا
 
وفي مسار رحلة البحث عن عالم ضليع يكون وجه الحركة العلمي وشيخها ورمزها المطاع عثرت الحركة أوائل التسعينيات على شاب نَبه نشأ في بيت علم، وحصَّل من علوم المحظرة ما يؤهله للدور الذي ينتظره فظلت ترعاه حتى استقطبته لصفوفها ودفعت به دون أن يخضع للمسار التكويني المعهود إلى صدارة المشهد الدعوي والعلمي، فألقت عصاها واستقر بها النوى.
 ولعل من زائد القول إن المعني ليس إلا الشيخ محمد الحسن ولد الددو.  
وختاما لهذا الفقرة نشير إلى أن مسار البحث عن الشرعية القانونية والرمزية كان مرهقا للحركة لكنها صبرت على بنائه، وجنت من وراء صبرها نجاحا ملحوظا.

يتواصل........