نواكشوط: مدينة طفولتي تغيّرت ملامحها

 أعمر ولد يعقوب

 

هناك مدن تولد من نهر، وأخرى من غابة أو جبل. أما نواكشوط، فهي ابنة الريح والرمال، ومع ذلك ها هي، مع مطلع هذا القرن، المدينة التي قيل عنها ذات زمن إنها عابرة، مؤقتة، منبسطة فوق الكثبان كمخيم رئاسي في سنوات التأسيس الأولى، تأخذ مظهر عاصمة دائمة، حديثة، بل جريئة.
من علّيات السلطة المجردة، تُرسم خطوط المدينة بيد جديدة. لم تعد الطبيعة وحدها هي من تشكّلها، بل الدولة، والاستراتيجية، والرؤية. على غرار بالزاك حين وصف باريس – تلك الخلية النشيطة من الطموحات والثروات والانهيارات – تتحول نواكشوط إلى عمل حي، حيث كل مفترق طرق تم توسيعه، وكل بلاطة وُضعت، وكل عمود إنارة نُصب، يحكي عن جهد أمة تنهض من مرحلة المؤقت.
تحت النظرة الصامتة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، تتبدّل ملامح المدينة دون صخب. فالرجل ليس من الذين يرفعون أصواتهم، لكن الشوارع تتكلم عنه. فالأسفلت يزحف على الغبار، وتظهر الجسور وعودا تم الوفاء بها. تصطف المدارس في شكل وحدات هندسية في الأحياء الطرفية التي طالما أهملها التطور.
أما الإنارة العمومية، التي كان يُظن أنها حكر على وسط المدينة وتفرغ زينه، فقد باتت تنير أرصفة السبخة ودار النعيم وتوجنين. ولم تعد الضواحي معتمة.

الأسواق، التي كانت تعمّها الفوضى، أصبحت منظمة ضمن هياكل حديثة. والشوارع الرئيسية تتسع، وتظهر مراكز اقتصادية جديدة هنا وهناك، كجزر من الأمل في هذا المحيط الحضري. 
نواكشوط التي كان الزائرون يسخرون من مظهرها، تسعى اليوم لأن تكون مدينة متصلة بالعالم، محافظةً في الوقت ذاته على روحها الصحراوية.

في ظل هذا التحوّل، يقود الوزير الأول مختار ولد أجاي، وهو تكنوقراطي دقيق وبراغماتي، عجلة التنفيذ. فحيث يرسم الرئيس الرؤية، هو يفصل يراقب، ويُسرّع ما تأخر. إنها ثنائية يصفها البعض بالصامتة، لكنّ فعاليتها باتت محفورة في إسمنت الجسور، وفي مخططات التهيئة العمرانية.

نواكشوط لا تزال مدينة التقاليد والأمل، رغم الجرافات ومخططات العمران. ففي كل عمارة ترتفع، تظلّ ضحكات الأطفال تتردد في الأزقة الرملية، وهمسات الحكماء تتنفس النبوءات القديمة بالتغيير. وها هو التغيير قد حلّ، ملموسًا، بل مرئيًا. يتقدم بخطى ثابتة، على إيقاع أحفاد علماء شنقيط، الذين أمسكوا بالشعلة تكريمًا لمجد الأسلاف.

قال بالزاك إن باريس بحر “يبتلع الشجاعة، والمواهب، والطموحات”. أما نواكشوط، فتبدو وكأنها تريد أن تكون ركيزة: صلبة، منظمة، قادرة على امتصاص النمو السكاني، واحتضان الابتكار، ومنح صورة تليق بدولة حديثة، لمواطنيها وللعالم.
لكن الوجه الجديد للعاصمة لا يتوقف عند حدود العمران. فثمّة تحولات تنبت في حقول جديدة: نهضة تكنولوجية متسارعة، مبادرات خضراء، إرادة في التنظيم، في تقنين شؤون النقل، وتوزيع الأراضي، وفي إرساء سياسة حضرية من أجل مستقبل مستدام.
غير أن المظهر وحده لا يكفي. فكما في كل رواية من روايات بالزاك، وراء الواجهات اللامعة، لا تزال تخفى النضالات الاجتماعية، وآمال شعب يتطلع إلى التغيير، ويريد أن يعيشه فعليًا. لأن نواكشوط ليست مجرد مشروع عمراني، بل هي مرآة سياسية، انعكاس يقرأ فيه المواطن نوايا حكامه. واليوم، يكتسي هذا الانعكاس ضوءًا جديدًا.