الوحدة الوطنية في موريتانيا… بين رسالة الدولة وواجب المواطن

 

 عبد الله أمانة الله

 

تقوم الأمم في لحظات التحوّل الكبرى بمراجعة ذاتها، وتتفحّص أسس وحدتها، بحثًا عن ذلك الخيط الرفيع الذي يشدّ مكوّنات المجتمع نحو أفق مشترك.
وفي الحالة الموريتانية، تبدو الوحدة الوطنية ليست مجرد خيار سياسي، بل قدرًا جغرافيًا وثقافيًا وتاريخيًا، تشهد عليه الصحراء الواسعة، وتؤكده القرون الطويلة من التعايش والتداخل بين مكوّنات المجتمع.

ومن هذا المنطلق، يصبح الأصل في المجتمع الموريتاني أنه مجتمع واحد، تتعدّد فيه الألوان واللهجات والجهات، لكنه يواجه مصيرًا مشتركًا.
مصيرٌ لا يستقيم إلا بالتعاون، ولا تزدهر روحه إلا حين يتشارك الجميع رغيف الأمل في وطنٍ حرّ ديمقراطي، ينعم بالرفاه والسكينة… تلك السكينة التي تتردد في الوجدان الشعبي كما لو كانت نشيدًا يوميًا يذكّر الإنسان بما يستحق أن يُصان.

بين سيادة الدولة ومتطلبات الأمن الاجتماعي

تلعب الدولة دورًا جوهريًا في تنظيم المجتمع وضبط الإطار العام الذي يضمن أمنه واستقراره.
وفي هذا السياق، تتخذ الحكومات إجراءات مختلفة لضبط حركة السكان وتنظيم الوجود الأجنبي، بما ينسجم مع القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية.

وقد كان لافتًا — خلال الفترة الأخيرة — جهود الدولة في ترحيل الأجانب المخالفين للقانون أو المقيمين دون وثائق، مع احترام القوانين الدولية وصيانة كرامة من يلتزمون بها.
هذا التوازن بين احترام القانون وحماية حقوق الإنسان جعل الإجراءات محطَّ تقدير لدى المواطنين، بوصفها تكريسًا لسيادة الدولة وتعزيزًا لإحساس الأمن والانضباط داخل المجتمع.

فالسياسات المتعلقة بتنظيم وجود الأجانب ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لضبط المجال العام. ونجاحها الحقيقي يكمن في أن تُمارَس بروح الدولة الحديثة: احتراما للإنسان، وحماية لحقوقه، وحرصا على أمن المجتمع وتماسكه. وعند هذا الحدّ الدقيق يتشكّل المعنى الإيجابي لدور الحكومة، بوصفها حارسًا لمعادلة العدالة والأمن في آنٍ معًا.

مواجهة النعرات… واجب وطني

إن أبرز ما يهدد اللحمة الوطنية ليس اختلاف الأعراق أو تنوع الخلفيات الثقافية؛ فتلك ظواهر طبيعية تُغني المجتمعات.
الخطر الحقيقي يكمن في النعَرات والانتماءات الضيقة التي تفتت الروابط وتدفع الأفراد إلى التمترس خلف هويات صغيرة على حساب الهوية الجامعة.

فالوحدة الوطنية ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، بل مشروع وعيٍ طويل المدى.
مشروعٌ يتطلّب وقوف الجميع — دولةً ومجتمعًا — في وجه كل خطاب يُقصي أو يُبغض أو يجرّم الآخر، وكل سردية تُغذّي الشك بين أبناء الوطن الواحد.
فالدولة مهما بلغت قوتها لا تستطيع وحدها أن تعزّز النسيج الاجتماعي إن لم يقرر الأفراد أن يحتموا ببعضهم بدل أن يتباعدوا.

بين الدولة والمواطن… علاقة مسؤولية متبادلة

لا يكتمل دور الدولة دون حضور المواطن البسيط؛ ذلك الذي ينهض كل صباح باحثًا عن لقمة شريفة وفرصة عادلة، وعن فسحة أمل تجعله يشعر بأن لهذا الوطن مكانًا في قلبه كما له مكانٌ على خارطته.

غير أن الانتماء لا يُبنى بالخطب والشعارات، بل بممارسة يومية يشعر فيها الفرد بأن الدولة تنصره بالعدل، وتعينه على حياة كريمة، وتفسح له الطريق ليكون جزءًا من البناء الوطني.
فالوطن لا يجب أن يكون للأقوياء وحدهم وخيراته للنافذين، بينما يتحمّل الضعفاء تكاليف الولاء وأعباء المعيشة.
إنما يجب أن يكون وطنًا لكل مواطنيه… بعدلٍ وإنصافٍ ومساواة.

فالمواطنة إحساس عميق بالانتماء، لا يتحقق إلا إذا شعر الفرد أن للوطن عليه حقًّا، وله فيه نصيب، وأن الدولة تقف على المسافة نفسها من الجميع.

خاتمة: الوطن… حين يكتمل المعنى

الوطن ليس مجرد مساحة نعيش عليها، بل هو القيمة التي نعيش من أجلها.
ولذا فإن بناء موريتانيا متماسكة، مزدهرة، آمنة، يتطلب مشروعًا وطنيًا يُسهم فيه الجميع: دولة ترعى، ومواطن يبني، ونسيج اجتماعي يحتضن التنوع ويقاوم التفرّق.

بهذه الروح وحدها يمكن للسكينة أن تستقر، وللوحدة أن تتحول من شعار إلى واقع، وللوطن أن يغدو فضاءً يستحق أن نحيا فيه… وأن يحيا فينا.

 

بقلم: عبد الله أمانة الله كاتب صحفي