تخلد موريتانيا غدا الجمعة الذكرى الـ 65 لعيد الاستقلال الوطني المجيد .
لقد شهدت مسيرة العقود الستة ونصف نجاحات في أحيان كثيرة وإخفاقات في أحايين أخرى، ولكن الحقيقة التي ظلت ثابتة هي إنشاء دولة من العدم على الرمال المتحركة وبسواعد وطنية، وسط محيط يئن تحت القلاقل والحسابات السياسية والجغرافية المقعدة .
التحليل التالي يتناول موضوع موريتانيا .. مسارسياسي مضطرب ومؤشرات تنموية محدودة.
تحديات التأسيس ...
استقلت موريتانيا في ظل تحديات كثيرة؛ تتمثل في صعوبة الحصول على الاستقلال، والخلافات السياسية الكثيرة بين نخبها حول علاقة الدولة الوليدة بالقوة الاستعمارية (فرنسا) وكذلك تحديات تنازع السيادة مع المغرب ومشكلة حسم الهوية "عربية أم أفريقية "؟ بالإضافة لمشاكل انعدام البنية التحتية، والكوادر المؤهلة، والصعوبات المتعلقة بنشأة دولة في ظل مجتمع متنقل، سكانه بدو رحّل ولا علاقة لهم بالتحضر وارتفاع نسبة الأمية والتخلف .
من التحديات التي واجهت نشأة الدولة الوليدة كثرة الزعازع السياسية كالإضرابات ضد التعريب، وضد نظام الحزب الواحد وعدم الاستقرار السياسي في مرحلة الستينات والسبعينات.
ورغم ذلك تحققت إنجازات مهمة، تمثلت في وضع اللبنات الأساسية للدولة كالعلم والنشيد والجيش والحكومة وإنشاء عملة مستقلة وتأميم أكبر شركة للمعادن بالبلد، والشروع في وضع البنى التحتية الأولى في مدينة نواكشوط، وبناء طريق الأمل وميناء نواكشوط والملعب الأولومبي وغيره، مع تكوين الكوادر لتسيير العمل في الإدارات المختلفة.
بيد أن الوضع السياسي ظل متوترا بين الحزب الحاكم والحكومة والرئيس من جهة والحركات الطلابية والأيديولوجية التي كانت تتحكم في الساحة الطلابية والرأي العام، من خلال نشاط واسع وتوعية كبيرة من ناحية أخرى، كما ساهم دخول حرب الصحراء 1975 في تعجيل نهاية نظام أول زعيم حكم البلاد .
الفترة المظلمة ... دوامة من الانقلابات
دخلت موريتانيا دوامة أولى من الانقلابات وعدم الاستقرار السياسي لفترة طويلة 1978- 1984 كانت حقبة مظلمة ولا إنجازات تذكر يها باستثناء إنشاء قانون الإجراءات الجنائية، وما وصف وقتها بـ"تطبيق الشريعة" وإنشاء قانون الملكية العقارية وتحرير الأرقاء السابقين.
في المقابل شهدت الفترة من 1981- إلى 1984 قمعا سياسيا كبيرا وتضييقا على الخصوم، وامتلأت السجون بالمعارضين وهرب الكثير من السياسيين وقادة الرأي للخارج، كما حدثت أشهر محاولة انقلاب 16 مايو تلتها محاكمة عسكرية وتم إعدام الضباط الرئيسيين المشاركين فيها .
هدوء في ظل ديمقراطية القبيلة
حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع البلاد 21 عاما وتوزعت فترة حكمة إلى قسمين :
1ـ الفترة العسكرية : 1984- 1990 كان نظامه عسكريا ولكنه لم يكن سلطويا ولا قمعيا في تلك الفترة وكان يستمع للمشورة بحسب المقربين منه .
2ـ الفترة المدنية : 1991-2005 كانت هذه الفترة بداية ما وصف بالمسار الديمقراطي في يوليو 1991 وتم استفتاء شعبى على دستور جديد، ووضع أول قانو للصحافة المكتوبة الخاصة، وصف من طرف المهتمين بأنه "قانون إجراءات جزائية".
وبما أن المسار الديمقراطي كان مفروضا على النظام ضمن ما عرف بمؤتمر "لابول" الذي نظمته فرنسا لمستعمراتها السابقة وضغطت عليها لفرض نوع من الديمقراطية فإن ولد الطايع حكم البلاد لأطول فترة من خلال تشجيع القبلية مما وفر له "ماكينة انتخابية "يحكم بها ضمن أغلبية تدور حول الحزب الحاكم، وكانت الانتخابات تحسم بالتصويت على أسس قبلية ليس أكثر، وقد شابها التزويرأكثر من مرة .
في بداية هذا العهد كان هنالك متنفس ضمن الصحافة الخاصة عبر أقلام صحفية جادة تكتب وتنتقد بصورة بناءة، لكنها سرعان ما أسكتت صحفها عبر منع الصدورأو المصادرة بـ"المادة 11" ثم في بداية الألفية تم تمييع الإعلام الخصوصي.. شهد هذا العهد الكثير من الإنجازات في البنية التحتية ومشروع الاتصالات "دومسات" الذي يربط موريتانيا بالعالم الخارجي، وكانت حماية الهوية العربية والموازاة بينها مع الانتماء الأفريقي حاضرة، كما اهتم بتطوير الاقتصاد وأدخل مؤسسات التمويل الدولية إلى موريتانيا وتبنى ليبرالية السوق وتبنى إصلاحات لهيكلة الاقتصاد، كما تم تبني إصلاح 1999 للتعليم .
اهتزازت في نظام ولد الطايع
بيد أن عدم تجديد النظام وخلوده عبر ماكينة انتخابية آلية جعله يشعر بتذوق طعم السلطة ويحرص عليها، وهكذا بدأت مرحلة الاعتقالات ضد الناصريين 1998 ثم الإسلاميين وجاءت العلاقة مع إسرائيل لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، وساهمت في مزيد من حنق الشعب على النظام.. ووقعت هزتان انقلابيتان يونيو 2003 واغسطس 2004 ولكن كل هذه التنبيهات لم تكن كافية.
نهاية غير متوقعة ...
بعد أن فاضت الكأس بأخطاء النظام، قرر ضباط من صلبه الانقلاب عليه والرئيس في سفر خارجي بتاريخ 03 أغسطس 2005 حيث كان الانقلاب غير متوقع نهائيا؛ بسبب تحكم النظام في مفاصل الدولة بالقبلية والجهوية والمحسوبة وغضه الطرف عن الفساد وإقامة الحفلات الكرنفالية وتسويق الشعارات الوهمية "حملة الكتاب والمطالعة ، والغذاء مقابل العمل ، نشيد الكتاب" .
العصر الذهبي للديمقراطية ..
حدد المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية فترة انتقالية، وأقام تشاورا واسعا شمل الجميع من أحزاب وهيئات مجتمع مدني وإعلاميين وشخصيات وطنية... أسفر المسار الديمقراطي الجديد عن أول انتخابات نزيهة فاز فيها الرئيس المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله وسلم له رئيس الفترة الانتقالية المرحوم العقيد اعل ولد محمد فال السلطة في حفل بهيج وصارت موريتانيا منارة للديمقراطية عربيا وإفريقيا .
استغرق الحكم الجديد فترة وجيزة،انتهت بانقلاب عسكري في 6 أغسطس 2008.
مرحلة جديدة .. التنمية والاستقرار
حكم الرئيس السابق محمد لد عبد العزيز بعد الانقلاب ونظم انتخابات بعد ضغط دولي على الحكومة العسكرية الجديدة، فاز في الانتخابات 2009 شهدت البلاد في ظل حكمه نهضة في البنية التحتية نسبيا واستقرارا اقتصاديا وتنوعا فيه وتحسنا في مؤشراته وفي مجالات التنمية المختلفة ومن أهم المشاريع في عهده إنشاء وكالة الوثائق المؤمنة .. لكن على المستوى السياسي كان نظام ولد عبد العزيز متمردا على المعارضة وعرفت أيامه الكثير من المسيرات المناهضة له، ولكنه في المقابل وسع من حرية الصحافة وسن قانون تحرير السمعيات البصرية .
وقد تبنى في عهده شعارات من قبيل "رئيس الفقراء ورئيس العمل الإسلامي " وتعهد بمحاربة الفساد . يقول خصومه السياسيون إن نظامه استبدادي وديمقراطيته شهدت الكثير من التزوير وأنه أدار الدولة على شاكلة مؤسسة تجارية .
انتهى عهده بانتخابات فاز فيها الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني 2019 وسلم له السلطة، ولكن تبعات 12 عاما في الحكم مافتئت تلاحقه عبر المحاكم بعد ماعرف بـ"الملف البرلماني" وصدر ضد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز حكم بالسجن 15 عاما في مابات يعرف بـ"ملف العشرية" بعد محاكمات ماراتونية مثيرة.
كان عهد الرئيس الحالي عهد تنمية في ظل الاستقرار وقد واصل مسيرة البناء والنماء، وكان عكس سلفه هادئا ومتصالحا مع الجميع حيث فتح باب القصر الرئاسي أمام كل معارضيه.
وقد حقق نجاحات تنموية وديبلوماسية كبيرة لموريتانيا في مأموريته الأولى، وهو الآن في الأشهر الأولى من السنة الثانية من مأموريته ومازالت المشاريع الهامة في عهده مستمرة كالمدرسة الجمهورية ومحاربة الفساد وتحقيق السيادة الغائية والانحياز للطبقات الهشة .
رغم ستة عقود ونصف من الاستقلال، مازالت البلاد المؤشرات التنموية محدودة في أهم المجالات كالصحة والتعليم والغذاء والبنية التحتية والاتصالات والحكامة الرشيدة ومحاربة الفساد والتشغيل .
حكم الواقع ...
مسار سياسي كثير المطبات .. ومسيرة تنموية بطيئىة النتائج، ونخبة تدور حول الحاكم في الغالب ... تلك هي حقيقة ست عقود ويزيد من عمر البلاد التي نشأت ضمن ما يعرف بـ"المنكب البرزخي" ووصفت "بـبلاد السيبة" .. ترى متى نقضي على تلك الأوصاف السلبية، ونصل لبرّ أمان التنمية والرخاء.
