في مدارس تحوّلت إلى مراكز نزوح، وبين أنقاض مبانٍ مدمّرة، واصل أعضاء «سيرك غزة الحرّ» عروضهم، رغم الحرب والجوع، ملهمين المخرجين مي سعد وأحمد الدنف بتصوير فيلم وثائقي عُرض في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي مؤخرًا.
وتدور أحداث فيلم «ضايل عنّا عرض» خلال العام الأول من الحرب في غزة التي اندلعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وتشهد هدنة هشّة منذ العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وفيه مشاهد من عروض السيرك ذي الإمكانات المتواضعة، ومن يوميات أعضائه الذين أنهكتهم الحرب.
ويقول المخرج الفلسطيني أحمد الدنف الذي يعيش في قطاع غزة لوكالة فرانس برس في اتصال عبر تطبيق واتساب، إنه حين سمع فكرة الفيلم من زميلته المخرجة المصرية مي سعد، «كانت أول مرة يحدثني شخص عن فيلم يركّز على الحياة اليومية وليس على القصف والمعاناة المباشرة».
ويضيف: «رأيت أمامي كل العقبات: الاتصالات المقطوعة وصعوبة التنقل والخطر المستمر ونقص المعدات. لكن رغم ذلك، شعرت أنه يجب أن ننفذ الفكرة».
وتقول مي سعد المقيمة في القاهرة، إنها أرادت «صنع فيلم عن الناس من وسطهم. فكل ما نشاهده عن غزة في الأخبار يصوّر الناس فقط كأعداد».
وتضيف: «أردت العمل على مشروع لتوثيق تاريخ الحياة اليومية أثناء الإبادة».
على مدار أكثر من عام، أعدّت سعد والدنف الفيلم بشكل مشترك، وكان المخرج الفلسطيني يصوّر المادة ويرسلها إلى القاهرة حيث تتمّ معالجتها.
رافق عارضي السيرك وهم يتقاسمون فيما بينهم القليل المتبقي من مساحيق الوجه ويساعدون بعضهم في وضعها وفي ارتداء الملابس، بسبب عدم وجود مرايا في مخيمات النزوح المكدّسة أو في الشوارع المليئة بالركام حيث قدموا عروضًا، وفق لقطات في الفيلم يمتزج فيها التأثر والمزاح والتعب.
وتتضمن لقطات أخرى عرضًا يتحلّق خلاله عشرات الأطفال حول مهرجٍ بأنف كبير أحمر يلعب بالكرات، أو يقدّم مشهدًا ضاحكًا مع مهرجَين آخرين، بينما الأطفال يضحكون ويصفقون ويغنون معهم.
ويقول مؤسس السيرك يوسف خضر عبر واتساب إن الهدف كان «أن يرى الأطفال شيئًا مختلفًا عن الحرب والدمار المحيط بهم طوال الوقت».
«أرهقنا الجوع»
بعد أسابيع من بدء التصوير، فُصل شمال غزة عن جنوبه. وكان أعضاء الفرقة قد نزحوا إلى أماكن متفرقة في القطاع، بينما بقي الدنف في غزة، ما دفع المخرجين إلى استخدام لقطات صوّرها أعضاء الفرقة بهواتفهم المحمولة، وفيها رحلات شاقة إلى أماكن العرض، أو ليلة يخيم عليها الخوف بعد قصف مبنى مجاور لهم.
من خيمته في جنوب قطاع غزة، يروي خضر لفرانس برس: «واظبت على تدريبات الجمباز والباركور أينما استطعت».
كذلك فعل رفاقه الذين يمكن مشاهدتهم في الفيلم يتابعون تدريباتهم في غرفة خالية من الأثاث ويعدّون طعامًا مكوّنًا من البطاطس والباذنجان والبيض، وهي مواد أصبحت في الأشهر التالية من الرفاهيات التي لم يعد في الإمكان الحصول عليها.
«المجاعة القاسية»
وفي شهر يوليو/ تموز، أعلن السيرك في بيان وقف أنشطته بسبب «المجاعة القاسية»، موضحًا في بيان: «لا يمكننا تقديم الدعم النفسي لأطفال لا يجدون ما يسدّ جوعه».
ويقول خضر: «حتى نحن كفنّانين، أرهقنا الجوع، وكان من الصعب المحافظة على اللياقة البدنية والمواظبة على التمرين».
ويضيف: «كانت تمرّ أيام لا نجد شيئًا نأكله. كنت أشتري 20 غرامًا من السكر بـ15 دولارًا وأحيانًا لا نجد أمامنا سوى لبن الأطفال المصنّع نأكله ليوفّر لنا بعض الطاقة».
وقُتل في القصف اثنان من العارضين وأُصيب ثلاثة آخرون بجروح.
بعد الهدنة، استؤنفت العروض في أكتوبر/ تشرين الأول بفقرات أقلّ بسبب نقص الموارد، ولا سيما بعد قصف المبنى الذي كانت تستخدمه فرقة «سيرك غزة الحرّ» في مدينة غزة للعروض وتقديم تدريب على فنون السيرك وأنشطة للأطفال.
الحلم بالعالمية
ويتذكّر الدنف أن إرسال المادة المصوّرة إلى القاهرة «كان من أصعب مراحل العمل. الإنترنت ينقطع أيامًا كاملة.. كنت أخطط يومي بحسب احتمال وجود شبكة. كنت أغيّر المكان الذي أنام فيه أو أمشي مسافات طويلة لأتمكّن من إرسال المواد إلى مي».
وفاز فيلم «ضايل عنّا عرض» بجائزة الجمهور ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني.
وعلى السجادة الحمراء، سارت مي سعد ليلة الافتتاح حاملة حاسوبًا لوحيًا متصلًا بمكالمة فيديو مع الدنف الذي لم يتمكن من الخروج من غزة، كما أعضاء «سيرك غزة الحرّ».
وقالت سعد إن قيمة الجائزة ستذهب لإعادة بناء مركز سيرك غزة الحرّ.
ويأمل خضر أن يساهم الفيلم في «أن يصل السيرك إلى العالمية حتى نخلق علاقات جديدة ونتمكن من إعادة مركز سيرك غزة الحرّ إلى العمل».
