محمد يسلم يرب ابيهات
يستبشر الجميع بكل جهد يصب في اتجاه الإصلاح، وكل مسعى له، مهما كان مصدره، وتوقيته. وهكذا تقع انتظارات الدوائر الثلاث من المعنيين بقطاع التأمين، الحكومة أو السلطات العامة المعنية بالإشراف على القطاع، من جهة؛ والفاعلين والفنيين، من جهة ثانية؛ تماما كما، الجمهور العريض، من جهة ثالثة في حيز التفاؤل والأمل المشروع؛ فالكل ينتظر ما سيسفر عنه انعقاد هذه المنتديات العامة يومي 8 و9 من هذا الشهر. وما ذلك إلا لإدراك الجميع لأهمية قطاع التأمين، وللحاجة الملحة إلى الإصلاح العاجل، لكل منظومته؛ بدءا من نشر الثقافة التأمينية، سبيلا إلى تغيير العقليات، وانتهاء بتوطين صناعة التأمين بعد ترويضها كليا، وصقلها، لجعلها متفقة مع معتقدات، ومبادئ وقيم المجتمع الموريتاني. ونطرا كذلك لإدراك الجميع لأهمية الدور الاقتصادي الجوهري الذي تلعبه صناعة التأمين في اقتصادات الدول الحديثة. ولم يعد يخفى على الكثير من المواطنين، من السائق البسيط إلى مالك أكبر الأساطيل؛ ومن العامل البسيط في القطاع غير المصنف، إلى أكبر رجال الأعمال في البلد، ارتباط الحياة العصرية بالتأمين؛ لذا فإن الجميع ينتظر أمرين أساسيين: استفادة المؤمن لهم، عبر التزام شركات التأمين بتعهداتها من خلال الضمانات التي تمنح في عقود التأمين، وبروز دور اقتصادي واجتماعي واضح لصناعة التأمين في بلادنا، يؤكد نجاح قطاعنا الخاص الذي يتعاطى منذ عدة عقود مع مجال أنشطة وافد عليه، وغير مألوف لديه، وبعيد كل البعد عن أساليب التجارة التقليدية في البلاد.
إذا، الانتظارات كثيرة وكبيرة، والآمال مشرعة، والحق يقال، بأن قرار تنظيم هذه المنتديات، ينم عن إدراك عميق لدى السلطات العليا في البلد، لضرورة إصلاح قطاع يتذمر الجميع من الاختلالات التي يعاني منها منذ عقود، أي منذ زمن غير قصير. ويسجل المعنيون بالقطاع، للمحافظ الحالي للبنك المركزي الموريتاني، والذي باتت الوصاية على القطاع تابعة لهيئته، تميز جهوده الشخصية، في السعي إلى إصلاح قطاع التأمين؛ ويأتي بالفعل انعقاد هذه المنتديات العامة بقرار، وإشراف فعلي منه، بالإضافة إلى وزارة المالية، وبالتعاون كذلك مع البنك الدولي، وشركاء آخرين في التنمية. فلا نملك إلا تثمين هذا التوجه الرسمي إلى إصلاح القطاع، والرفع من مستواه؛ حتى يكون في مستوى طموحات وآمال كل الأطراف المعنية.
وتبقى ورشات كتلك التي هي من قبيل إعادة صياغة مدونة جديدة للتأمين، منقحة، ومبسطة، ومحكمة في التبويب، والصياغة؛ مع كثافة المضمون في كل مادة، والوضوح في العبارة، باجتناب الصياغات التعميمية، والمبهمة، أو غير المحددة، أو التي تحتمل أكثر من تأويل، أو التي تحتمل تأويلا يفضي إلى عكس المقصود؛ مع إدراج ما يلزم من مواد على النص القديم الذي لم يعد مواكبا للمستجدات في قطاع التأمين، وهو نسخته الأصلية، صورة مبتسرة من مدونة مجموعة الدول الغرب إفريقية (CODE CIMA)، ترجمت ترجمة دون المستوى المطلوب من النص الفرنسي الأصلي، وبقيت متداولة في نسخة رقمية باللغة الفرنسية، مشوهة بالأخطاء الإملائية، وقد سقطت منها المواد من 153 إلى 160؛ هذا بالنسبة للنسخة الأكثر تداولا بالفرنسية، أما بالنسبة للنسخة العربية، والتي بحوزتي نسخة ورقية منها؛ فالصياغة واضح أنها أسندت إلى مترجم غير مختص، وتاهت بين اسم الفاعل، واسم المفعول من فعل "أَمَّنَ" حتى لجأ الصائغ غير المختص إلى الاستعانة بتوضيح متكرر، وممل، بين معكوفتين (بكسر الميم) تارة، و(بفتح الميم) تارة أخرى!! مع أن المتعارف عليه في عالمنا العربي كله هو ذكر حامل الوثيقة، أو المستأمِن، أو طالب التأمين، أو المؤمن له، كطرف في عقد التأمين؛ ومقاولة، أو مؤسسة، أو هيئة، أو شركة التأمين، كطرف ثاني في العقد؛ وبكل بساطة!!
وبعد هذا الاستطراد، يلزم التذكير، بضرورة تطوير الوسائل المهنية، والإدارية، والمادية، لإدارة رقابة التأمين التي توجد حاليا في البنك المركزي الموريتاني بما يضمن لها الكفاءة، والمهنية، والمردودية المتوخاة من أنشطتها الرقابية. ولن نستطيع لعمري، إحكام الرقابة، إلا باكتتاب ذوي الكفاءات الضرورية، إذ لا يعقل أن تسند مهمة الرقابة إلى أشخاص لا يملكون الخبرة والمعارف الكافية.
ولعله من المفيد كذلك، التنويه بأهمية الاقتباس الذكي، والاستفادة المتبصرة، من تجربة جارتنا، المملكة المغربية، التي قطعت أشواطا معتبرة في الرقابة المالية "المهنية" والمتطورة، على قطاع الإيداع المالي بشكل عام، سواء فيما يخص البنوك أو المصارف، أوما يتعلق بصناديق الإيداع والتحوط، أو ما يعني الرقابة والإشراف على شركات التأمين. فلا بأس من الاستفادة من التجربة المغربية في إنشاء هيئة مختصة بالإشراف على الإيداع بشكل عام، تدعى ACAPS.
هذا بالإضافة إلى ضرورة الصرامة في تطبيق النصوص القانونية والإجرائية المعمول بها بكل دقة، ومهنية، وتجرد، وحياد، مع جميع الشركات العاملة في سوق التأمين الوطنية. وذلك انطلاقا من التنبيه، إلى التحذير؛ فالتوبيخ، فالإنذار، فالسحب النهائي للرخصة عن أي شركة تخالف القانون.
هذا بالإضافة إلى الاستمرار في نشر التقارير، والدراسات، والاستطلاعات، والإحصائيات الدائمة عن القطاع. وفي هذا الصدد يجب التنويه والإشادة بنشر تقرير 2022م؛ الذي كان المشهد التأميني العام لبلادنا في أمس الحاجة إليه؛ على أننا ننتظر، وبفارغ الصبر، صدور تقارير السنوات التي أتت من بعده؛ مع إدراكنا للصعوبات، والعراقيل، والإكراهات التي تحيط بعمل من ذلك المستوى. فلقد كان تقرير 2022م، جهدا جبارا؛ يذكر، فيشكر؛ مع أنني لم أطلع شخصيا على نسخة منه باللغة العربية.
ومن جهة أخرى، يظل الأمل معقودا على انخراط الفاعلين من ملاك الشركات الوطنية، الذين لا شك بأنهم مرتاحون لما يقام به من جهود لإصلاح القطاع، لا يمكن إلا أن تعود عليهم بالنفع، وذلك نظرا لوعيهم لما يتطلبه هذا القطاع من مستوى تنظيمي كبير، وتقنين محكم، وتدبير ومرافقة يومية؛ ومواكبة للجهود بالإرشاد، والتوجيه، والرقابة الصارمة التي تعود بالنفع على الجميع، حتى تظل قواعد المنافسة الشريفة، واحترام النصوص المعمول بها، واتباع القواعد الفنية الدقيقة، موضع احترام من طرف جميع الفاعلين؛ وهو الشرط الذي لا غنى عنه بالنسبة لقطاع يُعَدُّ الأكثرَ تقنينا وتنظيما في العالم. ويظل الانتظار كاملا، كي يواكب هذا الوعيَ، انخراطٌ فعليٌ لجميعِ الفاعلينَ الاقتصاديين في القطاع، في جهود التوعية، ونشر الثقافة التأمينية، والصرف السخي على الإشهار "التثقيفي" للعموم من المواطنين البسطاء، حتى يرتفع مستوى الوعي بأهمية وضرورة التأمين في حياة الأفراد، والمجتمعات، في عالمنا الحديث. ولا يخفى على أحد أن الجهد التوعوي لدى شركات التأمين عندنا لا يزال دون المستوى المطلوب. ولعل هذه المنتديات تكون مناسبة لتذكير ملاك شركات التأمين في بلادنا بضرورة الإسهام بشكل أكبر، عبر تخصيص ميزانيات معتبرة، والانفاق "السخي"، على جهود التوعية الجماهيرية، ونشر الثقافة التأمينية بين المواطنين، والتي هي السبيل الأمثل، إن لم نقل الوحيد، إلى الرفع من مستوى اختراق التأمين لطبقات المجتمع، وتغلغل التأمين في بلادنا؛ عبر زرع عقلية اللجوء إلى التأمين في جميع مراحل، ومنعطفات، وأنشطة الحياة الشخصية، والمهنية، والتجارية.
أضف إلى ذلك ما هو واضح من ضرورة التكوين المهني المستمر لطواقم العمال لدى هذه الشركات، وتزويد مؤسساتهم بالمصادر المعلوماتية الضرورية للقيام بالدراسات الإحصائية، والاستشرافية، والاستطلاعية؛ من مكتبات رقمية وورقية؛ وإعطاء التكوين المهني المستمر ما يستحقه من اهتمام، والصرف عليه، ورصد ميزانية سنوية خاصة بالتكوين المستمر؛ إذ يرتبط ارتباطا وثيقان بمردودية كل عامل في شركة التأمين، في مصالح الإنتاج، والتعويض، والمحاسبة؛ والمصالح الإدارية والمعلوماتية، والمالية للشركة. الكلّ، الجميع، يحتاج إلى التكوين الدائم، ورفع مستوى الكفاءات، والخبرات، وتنمية المعارف، ومواكبة المستجدات، والتطوير المستمر للأداء.
هذا كله، إلى جانب المهنية، واحترام المعايير الفنية المتعارف عليها دوليا في طريقة الاحتفاظ بالأقساط المكتتبة، واستثمارها بالطرق القانونية الأمثل، واحترام هامش الملاءة المالية الضرورية، والتعزيز الدائم للمركز المالي للشركة، واحترام المخصصات للأقساط السارية، ومخصصات التعويضات تحت التسوية، ومخصصات تقلبات معدلات الخسائر والاحتياطات الإضافية؛ والالتزام بالتعويضات المستحقة في آجالها، واحترام الالتزامات مع شركات إعادة التأمين؛ فإن الوعي بضرورة احترام مختلف هذه المعايير الفنية في التسيير اليومي للشركة، يجعل من رجال أعمالنا الذين اختاروا الاستثمار في هذا القطاع، ملاكا مهنيين، يحترمون القواعد الفنية في التسيير، انطلاقا من قناعتهم أولا، أنها تصب في مصلحتهم، وتضمن لهم الاستفادة المادية الأكبر، وبشكل سليم متفق مع القواعد التسييرية لشركات التأمين، المتعارف عليها في العالم كله.
أما من جهة الفنيين، وذوي الاختصاص من أهل القطاع، فبالإضافة إلى كل ما ذكر آنفا، وهو كله يشكل بالفعل حيزا كبيرا من انشغالاتهم، كفنيين؛ فإن لي، كمنتسب (من قبيل أحب الصالحين ولست منهم)، أن أجمل الآمال التالية للفنيين:
1- صياغة مدونة جديدة لقانون التأمين، تكون الصياغة الأصلية لها في اللغة الفرنسية، مع ضمان ترجمة لها إلى اللغتين العربية والإنجليزية؛ تكون ترجمة دقيقة، مهنية، يعهد بها إلى أخصائيين من أعلى المستويات عالميا. على أن يحتل التأمين التكافلي حيزا معتبرا في هذه المدونة؛ بالإضافة طبعا إلى التأمين التقليدي، الذي لا غنى عنه، نظرا للعولمة الاقتصادية.
2- إكمال المشهد المؤسساتي التأميني في بلادنا، بالإنشاء الفعلي لصندوق "الضمان لحوادث السيارات"، الذي لم ير النور لحد الساعة، مع وروده في النصوص القانونية المنظمة للقطاع، ونطرا لأهميته، إذ، بالإضافة إلى تكفله بجميع حالات الوفيات الناجمة عن حوادث السير التي لا يعرف المسؤول عنها؛ يمكن أن نستغله في بلادنا بغية "الاحتضان" لهيئة أهم منه بكثير، هي هيئة "العاقلة" أعني آلية كبيرة، على المستوى الوطني، تضمن للجميع دفع الدية الشرعية بشكل جماعي، في كل الحوادث المرورية الجسمانية.
3-تطوير صناعة التأمين التكافلي، الذي يشكل في الحقيقة الانتظار الأهم لأغلب المواطنين، إن لم نقل جميعهم؛ عبر إنشاء معهد وطني مختص بالتكوين في التأمين التكافلي، الذي هو البديل الإسلامي عن التأمين التجاري والتعاوني التقليدي. والترخيص لشركات متخصصة في صناعة التأمين التكافلي وحده.
4-إنشاء "السجل الوطني لحوادث المرور" ، يكون هذا السجل، سجلا مختصا بالإحصائيات، والتوثيق، والمتابعة، لجميع حوادث المرور، على عموم التراب الوطني، يتمتع بموقع على شبكة الإنترنيت متاح لجميع المواطنين؛ وتسند مهمة الإشراف عليه إلى لجنة إشراف وطنية مكونة من ممثلين عن: الرابطة المهنية للمؤمنين الموريتانيين ، وإدارة رقابة التأمين، ورابطة القضاة الموريتانيين، وممثل عن اللجنة الوطنية للتأمين، وممثل عن وزارة النقل، وممثل عن كل من سلكي الدرك الوطني والشرطة المرورية، المعنية بصياغة ونشر، وأرشفة محاضر حوادث السير. ويكون هذا السجل الوطني بمثابة المرجع المعتمد، والنهائي، والفصل، المعتمد رسميا في تحديد المسؤوليات عن حوادث السير. إليه يرجع المتقاضون، ويعتمد عليه القضاة، كمصدر وحيد رسميا، في المحاكم التي تعقد للبت في النزاعات حول التعويض عن حوادث المرور.
5-إنشاء هيئة إحصائيات "مختصة في التأمين" داخل إدارة الرقابة على التأمين، تتيح للدارسين والباحثين، والفنيين، والمهتمين، الاطلاع على كل المعطيات، والبيانات، والإحصائيات، المتعلقة بصناعة التأمين في موريتانيا. إذ يشكل غياب المعطيات، والبيانات الإحصائية، أحد أهم معوقات الدراسة، والمتابعة، لسوق التأمين في بلادنا.
6-اعتماد التخصص في منح التراخيص مستقبلا، لشركات التأمين، وحتى، إن أمكن ذلك، إلزام الموجود منها حاليا بالتخصص، عبر الاندماج، أو تفويت "حقائب تأمينية" بصيغة قانونية؛ بحيث تكون لدينا شركات مختصة في فروع "التأمين على غير الحياة"، وفرع " تأمين الادخار والتحوط " وفرع "التأمين على الحياة". على أن تكون الشركات التأمين التقليدي على حدة، وشركات التأمين التكافلي على حدة، كذلك.
7-خلق سلك من الأكتواريين، معتمدين محليا، من الوطنيين والأجانب الذين يحق لهم ممارسة هذه المهنة؛ وتقنين ممارستهم لها، وإلزام شركات التأمين العاملة على التراب الوطني بالحصول على "تأشير" أحد الأكتواريين المعتمدين، قبل إمكانية تسويق أي منتوج تأميني.
8-اعتماد لائحة من الخبراء في مختلف المجالات، من مهندسين، وأطباء، وفنيين، وميكانيكيين، وتقنيين سامين في جميع المجالات؛ يعتمد على تقاريرهم، ويكون رأيهم الاستشاري ملزما للمتنازعين أمام القضاء.
9- تكثيف تكوين محامين وقضاة وطنيين، متخصصين في مجال التأمين، ضمانا لعدالة المحاكمات، ومطابقة منطوق الأحكام الصادرة عنها للنصوص القانونية الخاصة بمجال التأمين، التي أصبح التخصص فيها من قبل القضاة والمحامين، ضروريا.
10- وفي النهاية، وأخيرا، وليس آخرا؛ الاعتناء بالكفاءات الوطنية، عبر إحصائها دوريا، وتقديم الدعم المعنوي والمادي لها، والاستفادة من الخبرة المتراكمة لديها، والتي تأتي في الغالب عبر سنين من الممارسة الفعلية، وهي الخبرات الميدانية ذات الأهمية القصوى؛ التي يجب الاعتناء بها والاستفادة منها في كل الجهود والمساعي الجادة في تطوير قطاع التأمين في بلادنا.
وفق الله الجميع لما فيه مصلحة وخير بلادنا.
