محمد الأمين الفاضل
أُعْلِن مؤخرا عن تشكيل لجنة برلمانية لمراجعة النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وتتشكل هذه اللجنة من 13 نائبا، ويترأسها النائب سيدينا سوخنه.
قد يبدو لكم ـ ولأول وهلة ـ أن هذا الخبر هو مجرد خبر عادي يخص النواب لوحدهم، ولا يستحق أي تعليق من خارج الجمعية الوطنية. ربما يكون الأمر كذلك بالنسبة لكم، ولكنه بالنسبة لي، أنا الذي كنتُ شاهدا في الفترة الماضية على معركة شرسة لم يعلن عن دوافعها الحقيقية، وغابت تفاصيلها عن الرأي العام، وكانت ساحتها الخفية المادة 61، فإن هذا الخبر بالنسبة لي ليس خبرا عاديا، ولا شأنا داخليا يخص النواب، وإنما هو خبر مقلق، إن كانت المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية من بين المواد المستهدفة بهذه المراجعة.
عن أول تعديل للمادة 61
في شهر يوليو من العام 2019 أُجْرِيَّ أول تعديل على المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وكانت ردود الأفعال المناهضة لذلك التعديل قوية جدا، وكانت تُدافع في مجملها، حتى وإن لم يُعلن عن ذلك، عن مكانة اغتصبتها اللغة الفرنسية في جمعيتنا الوطنية، وبغير وجه حق.
لقد بذل الرئيس السابق للبرلمان الشيخ ولد بايه، وهذا مما يُحسب له، جهدا كبيرا لصالح لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية خلال فترة رئاسته للبرلمان، ومن ذلك الجهد أنه تمكن في ظل رئاسته للبرلمان من إجراء تعديل على المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، ليصبح نصها بعد التعديل :" تُوفر إدارة الجمعية الوطنية الترجمة الفورية لمداولات البرلمان باللغات الوطنية".
تَرتَّب على هذا التعديل، أن اتخذ ولد بايه إجراءات في غاية الأهمية مكنت في المحصلة النهائية من ترجمة كل مداخلات النواب في البرلمان إلى كل اللغات الوطنية، بل أكثر من ذلك فقد أصبح بإمكان كل موريتاني أينما كان، أن يستمع لكل ما يدور في غرفته التشريعية من نقاش بلغته الأم أيا كانت لغته الأم، وكان ذلك بفضل تعديل المادة 61، واكتتاب مترجمين للغات الوطنية، وإطلاق قناة البرلمانية المتخصصة في بث مداولات البرلمان، والتي يصل بثها إلى الجميع.
بعد هذا التعديل الهام شُنَّت حرب إعلامية شرسة ضد الرئيس السابق للجمعية الوطنية، وقد قيل حينها إنه منع التحدث باللغة الفرنسية في البرلمان، وهذا غير صحيح، فكل ما فعله الرجل هو أنه ألزم بترجمة المداخلات التي يتحدث أصحابها بإحدى لغاتنا الوطنية، وأوقف الترجمة من وإلى اللغة الفرنسية، مع السماح لكل من يريد من النواب أن يتحدث بالفرنسية أن يتحدث بها، ولكن من دون الاستفادة من خدمة الترجمة الفورية التي أصبحت خاصة بلغاتنا الوطنية.
هذا هو ما حدث بالضبط حينها، مع أن الطبيعي، لو كان برلماننا يعمل بشكل طبيعي كبقية البرلمانات في العالم، أن يُحَرَّم، بل ويُجَرَّم الحديث بأي لغة أجنبية داخله، ففي البرلمان الفرنسي مثلا يُحظر استخدام أي لغة غير الفرنسية، وفي تونس التي تصل فيها نسبة المتحدثين باللغة الفرنسية إلى ما يقارب 50 % من الشعب التونسي، فإن المادة 104 من النظام الداخلي للبرلمان التونسي تحظر استخدام اللغة الفرنسية داخل البرلمان، وفي المغرب يحظر استخدام أي لغة غير العربية والأمازيغية داخل البرلمان المغربي، وفي الجزائر نفس الشيء، وهكذا في العديد من دول العالم.
لم يحظر ولد بايه الحديث باللغة الفرنسية داخل الغرفة التشريعية، وهذا ما كان يجب أن يحصل، وإنما اكتفى ـ وهذا هو أقل ما يجب ـ بأن أوقف الترجمة من وإلى الفرنسية، ومع ذلك فقد شُنت ضد الرجل حملة إعلامية شرسة، فأصدرت بعض أحزاب المعارضة وبعض الجهات المحسوبة عليها، بيانات شديدة اللهجة للتنديد بهذا التعديل، وبدأت إذاعة فرنسا الدولية في التحريض ونشر الأكاذيب في محاولة لتأجيج الرأي العام لفرانكفوني ضد التعديل. وقد بلغ حجم التلفيق بالإذاعة أن قالت في إحدى نشراتها على لسان مراسلها في نواكشوط الصحفي "سالم مجبور سالم" إن اللغة الفرنسية ـ حسب الدستور الموريتاني ـ هي لغة عمل في موريتانيا!!!
كما أنها قالت في نفس النشرة بأنه قد تم تحريم التحدث باللغة الفرنسية في مداولات البرلمان الموريتاني، وهي المغالطة التي كررتها في خبر نشرته على موقعها يوم 03 ـ 02 ـ 2020 عند منتصف الليل وست وعشرين دقيقة، واختارت أن تعنونه بنفس الكذبة التي تقول بأنه تم تحريم التحدث باللغة الفرنسية في البرلمان الموريتاني.
ولم تتوقف الحملة ضد تعديل المادة 61 عند تلفيق إذاعة فرنسا الدولية، بل إن السفير الفرنسي في نواكشوط شارك في الجهود الرامية لإعادة الترجمة من وإلى اللغة الفرنسية، حيث ذكرت بعض وسائل الإعلام المحلية أنه استدعى بعض النواب، وحثهم على التمسك بالمطالبة بتوفير ترجمة مداولات البرلمان من وإلى اللغة الفرنسية، ومع أن السفارة الفرنسية نفت فيما بعد هذا اللقاء، إلا أن هناك قرائن عديدة لا يناسب المقام لذكرها تدعم صحة ما تحدثت عنه بعض وسائل الإعلام المحلية عن لقاء السفير الفرنسي ببعض النواب.
أول محاولة للالتفاف على التعديل
في شهر يناير من العام 2022 تم تشكيل لجنة برلمانية جديدة من 5 نواب لمراجعة النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وكانت هناك محاولة جادة لتعديل المادة 61. فبعد شيء من التقصي قمتُ به حينها، وبعد اتصال ببعض أعضاء اللجنة، فهمتُ أن هناك محاولة جدية لتعديل هذه المادة يقودها أحد النواب، ويدعمه أربعة نواب من خمسة هم أعضاء اللجنة، والحجة التي كان يُدفع بها هي أن اللجنة ترى أن ترجمة الجمعية الوطنية للمداخلات باللغات الوطنية كانت مسألة في غاية الأهمية ويجب أن تستمر، ولكن ـ والمشاكل تأتي دائما بعد ولكن ـ فإن اللجنة ترى أنه من المهم كذلك أن تشمل الترجمة أيضا المداخلات المقدمة باللغة الفرنسية.
لا تخفى بالطبع خطورة العودة إلى ترجمة المداخلات باللغة الفرنسية، فخطوة كهذه، وبالإضافة إلى أنها ستشكل مساسا بالسيادة الوطنية في غرفتنا التشريعية، وتعدُّ شذوذا عن أعراف البرلمانات في العالم، فإنها ستشكل أيضا طعنة قوية في الظهر، بل وفي الصدر أيضا، للغاتنا الوطنية الثلاث.
إن العديد من النواب الناطقين بلغاتنا الوطنية الثلاث ما زال يرفض ـ حتى الآن ـ التحدث بلغته الأم في البرلمان، ومن المؤسف أن بعض هؤلاء النواب لا يتذكر لغته الأم إلا عند ما يتم الحديث عن تفعيل ترسيم اللغة العربية، فهنا وهنا فقط يتذكرها، بل إنه قد يُطالب بترسيمها، ومساواتها قانونيا باللغة العربية، ولا يخفى أن طلبا كهذا لا يقصد من ورائه إلا الوقوف ضد تفعيل ترسيم اللغة العربية، فهل سمعتم عن وجود دولة في هذا العالم لا يتجاوز سكانها خمسة ملايين، لديها أربع لغات رسمية؟
إن المطلوب لمن يهتم حقا بلغاتنا الوطنية، هو أن يعمل على تطويرها لتصبح قابلة للكتابة، وأن يسعى لحضورها بشكل أوسع في الفضاءات العامة، وقد اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات مهمة في هذا الاتجاه، حيث أُطلقت وحدة لتدريس لغاتنا الوطنية لشعبتي القضاء والإدارة في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، وبدأ تدريسها في المدارس بشكل متدرج، تنفيذا لما جاء في القانون التوجيهي للنظام التربوي، هذا بالإضافة إلى توفير الترجمة منها وإليها في الجمعية الوطنية، ولا تقل هذه الخطوة الأخيرة أهمية عن سابقتيها، ومع ذلك ـ وهذا من غرائب الأمور ـ فقد وقف بعض الناطقين بلغاتنا الوطنية ضد هذه الخطوة، ورفض بعضهم أن يتحدث بلغته الأم في البرلمان، ولعل خير مثال يمكن تقديمه هنا هو رفض أحد النواب الشباب المحسوببين على المعارضة أن يتحدث بلغته الأم في أول مداخلة له في البرلمان، وتحدث بدلا منها باللغة الفرنسية، وقد شجعه على ذلك بعض نواب المعارضة، رغم أن حديثه بلغته الأم كان سيترجم إلى كل اللغات الوطنية، وهو ما سيمكن كل الموريتانيين من سماع مداخلته بلغاتهم الأم، ففضل بدلا من ذلك، الحديث باللغة الفرنسية، مع علمه مسبقا بأن مداخلته لن تترجم إلى اللغات الوطنية، ولن تفهمها إلا القلة القليلة جدا من الموريتانيين التي تفهم اللغة الفرنسية، والتي لا تصل نسبتها إلى 10% من مجموع الموريتانيين.
إن أي تعديل جديد للمادة 61، يهدف إلى فتح المجال مرة أخرى للترجمة من وإلى اللغة الفرنسية، سيجعل بعض النواب النطاقين بلغاتنا الوطنية الثلاث، والذين بدؤوا يتحدثون في البرلمان بلغاتهم الأم، يتوقفون عن الحديث بها، ويعودون إلى الحديث باللغة الفرنسية بعد أن ضُمِنَتْ لهم ترجمة مداخلاتهم باللغة الفرنسية إلى كل اللغات الوطنية، وسيعني ذلك تراجع استخدام لغاتنا الوطنية في البرلمان، أي انحسار استخدامها في فضائنا التشريعي.
وشهادة للتاريخ، فإن الذي وقف بحزم ضد هذا التعديل هو الرئيس السابق للبرلمان الشيخ ولد بايه، والذي ينقل عنه أنه قال ما مضمونه: إن المادة 61 لن تمس، ولن يجرى عليها أي تعديل جديد، ما دمتُ أنا رئيسا للبرلمان.
لا مشكلة لديَّ مع فرنسا ولغتها
يحاول بعض لفرانكفونيين، ممن لا يجد حججا مقنعة، ولا حتى حججا غير مقنعة، يُدافع بها عن استمرار اغتصاب اللغة الفرنسية لمساحات لا تستحقها في الإدارة والتعليم في موريتانيا، يحاول أولئك أن يلصقوا بي ـ وبغيري من المدافعين عن لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية ـ تهمة "معاداة الفرنسية" أو "معاداة فرنسا"، ولؤلئك أقول، وكما قلتُ سابقا: إذا برَّ الابن والديه فهذا لا يعني أنه عاق لآباء وأمهات الآخرين، وإذا أحب المواطن وطنه فهذا لا يعني أنه يبغض أوطان الآخرين، وإذا دافع هذا المواطن عن لغته الرسمية أو لغاته الوطنية، فهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أنه يعادي لغات الآخرين.
إن العاق حقا هو من يعق والديه، حتى وإن برَّ كل الآباء والأمهات في العالم، والخائن حقا هو من يخون وطنه، حتى وإن ضحى بحياته من أجل أي دولة أخرى في العالم، والمستلَبُ حقا هو من لا يتعلم اللغة التي نزل بها القرآن، ولا يدافع عنها، ولا يفتخر بأن لغة بلده الرسمية هي اللغة التي اختارها الله لتكون لغة القرآن العظيم، ووعاء الشريعة الإسلامية. إن المستلب حقا هو من لا يتعلم لغة بلده الرسمية، ولا يدافع عنها، ولا يفتخر بها، وسيبقى هذا المستلبُ مستلبا حتى وإن تعلم كل لغات العالم الأخرى.
تلك كلمة كان لابد أن تقال ـ وبأعلى صوت ـ عن لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية، وما دامت تلك الكلمة قد قيلت، فإليكم كلمة مكملة عن فرنسا ولغتها.
فيا أيها لفرانكفونيون الذين تتهمونني ب"معاداة الفرنسية" : أنا لستُ معاديا للغة الفرنسية، واللغات ليس أصلا محل عداء أو كره، وأنا من الذين يرون أن تعلم أي لغة مهما كانت يعتبر إضافة وميزة لمن تعلمها، وليست منقصة أبدا، خاصة إن تعلم تلك اللغة بعد تعلم لغة بلده الرسمية، والتي هي بالمناسبة لغة كل مسلم في هذا العالم يريد أن يتدبر القرآن أو أن يتفقه في دينه.
وأنا من الذين يرون ـ وهنا سأزيدكم من الشعر بيتا ـ أن فرنسا يجب أن تكون أقرب لبلدنا من كل دول الغرب الأخرى، وأن علاقتنا معها يجب أن تكون أقوى من علاقاتنا مع أي دولة غربية أخرى، وأرى كذلك أن اللغة الفرنسية يجب أن تكون اللغة الأجنبية الأولى في بلدنا، حتى وإن كنتُ أدركُ أن جعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى في بلدنا قد يجلب لنا مصالح أكثر، وأن إقامة علاقات أقوى مع دول غربية أخرى غير فرنسا قد يجلب لنا كذلك مصالح أكثر.
نعم إن فرنسا ولغتها، وبحكم تاريخ العلاقات بين بَلدينا، وهي علاقات لم تكن في مصلحتنا دائما، ففرنسا المستعمرة لم تترك لنا من بنية تحتية إلا مباني قليلة أغلبها كان من الطين، وأكثرها كان سجونا. أقول إن فرنسا ولغتها، ورغم كل ما يمكن أن يُستحضر من ماض غير مشرف، يجب أن تحظى في بلادنا بمكانة خاصة بالقياس مع دول الغرب الأخرى ولغاتهم، ويجب أن تمنح اللغة الفرنسية كلغة أجنبية، مكانة خاصة في بلدنا بالقياس مع اللغات الأجنبية الأخرى، وتُمنح فرنسا علاقات خاصة بالقياس مع دول الغرب الأخرى.
هذا ما أراه بخصوص علاقتنا بفرنسا ولغتها، ولكن على فرنسا أن تعلم ومن الآن، بأن استمرار اغتصاب اللغة الفرنسية لمكانة لا تستحقها في إدارتنا أو في تعليمنا على حساب لغتنا الرسمية أو لغاتنا الوطنية لم يعد مقبولا، بأي حال من الأحوال.
نعم للغة الفرنسية بصفتها لغة أجنبية أولى في موريتانيا، ولا، وألف لا، للسماح لهذه اللغة الأجنبية بأن تغتصب، ولو ملليمترا واحدا، من فضاءاتنا الرسمية وشبه الرسمية، والتي يجب أن تبقى حكرا للغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية.
على فرنسا أن تأخذ العبرة مما جرى في بعض مستعمراتها السابقة في إفريقيا، وعليها أن تدرك بأن استمرارها في محاولة فرض هيمنتها ولغتها على شعوب ودول مستقلة، سيأتي بنتائج سلبية، وقد يولد عداءً قويا لدى شعوب تلك الدول لفرنسا ولكل ما لها به علاقة، مثلما ما حصل في مالي والنيجر واتشاد وفي دول إفريقية أخرى.
عذرا، يبدو أن المقال قد تجاوز أضعاف المساحة المخصصة له، ومع ذلك فقد بقي في الصدر كثيرٌ مما كان يجب أن يُقال، وفي ختام هذا المقال أذكر بما بدأتُ به : المادة 61 خطٌ أحمر.
حفظ الله موريتانيا..