لماذا لن تستسلم حماس؟

ترتفع أصوات تطالب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالاستسلام، وتسليم سلاحها لوقف حرب الإبادة التي تقودها إسرائيل بدعم أميركي، وبوحشية غير مسبوقة، وفي تحدٍّ سافر لكل القوانين الدولية والأخلاق والإنسانية والأعراف البشرية. وهذه الأصوات ثلاثة أنواع: إسرائيلية أميركية صهيونية تريد تحقيق أهدافها بالقوة، وبمزيد من التقتيل والدمار، وأصوات متواطئة ومتخاذلة تُحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل يومياً في قطاع غزّة. وأصوات، ربما هي الأصدق، أرهقت أصحابها مشاهد المجازر البشرية التي يرتكبها جيش الاحتلال يومياً، وعلى الهواء مباشرة، تستهدف الأطفال والنساء والعزّل الأبرياء، تقصف اللاجئين الجوعى تحت خيامهم المهترئة والجرحى والمرضى داخل المستشفيات، وتقنص الأطباء والمسعفين والصحافيين والمتطوعين أمام مرأى (وسمع) العالم المتواطئ والمتخاذل والشاهد الصامت على الجريمة.

لماذا لا تستجيب "حماس" والفصائل المقاومة الأخرى داخل قطاع غزّة إلى واحد من هذه الأصوات، وتلقي سلاحها وترفع الراية البيضاء لحقن مزيد من دماء شعبها؟ في الميدان، كل المؤشّرات تدعو المقاومة الفلسطينية إلى الرضوخ لمطالب العدو، لأن كل موازين القوى، العسكرية والسياسية والإعلامية، ليست في صفّها، فكيف لها أن تواجه قوة الدمار الهائلة التي تتوفر عليها إسرائيل وتدعمها أميركا، ومن ورائهما الغرب الذي يبرّر ويشرعن، والعرب ومنهم الصامتون والمتخاذلون والمتواطئون المطبّعون. ومن الناحية الإنسانية، لا تنقصها الذرائع القانونية والشرعية والأخلاقية والدينية لإعلان استسلامها أمام الكلفة الهائلة من التضحيات البشرية التي يقدّمها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة يوميا 17 شهراً ونيف.

جواب "حماس" عن هذا السؤال هو ما أعلنه قادتها منذ أول يوم من هذا العدوان، وهو جنوحهم إلى السلم المشرّف الذي يحفظ لشعبهم حقوقه وكرامته، وللمقاومة حقّها في مقاومة الاحتلال وهو الحق الذي تخوّله لهم القوانين الدولية والشرائع الدينية. أما مطالبتها بالاستسلام فهو إعلانٌ ليس فقط عن نهاية وجودها وإنما نهاية قضيتها. ولا يذكر التاريخ أن مقاومة وطنية في العالم استسلمت لعدوها لإنهاء القضية التي تناضل من أجلها، فما تريده إسرائيل وأميركا، و"دعاة الخير" الذين ينصحون اليوم المقاومة بإلقاء سلاحها وإعلان هزيمتها، هو القضاء على القضية الفلسطينية وإعلان نهايتها بصفة نهائية وإلى الأبد.

المقاومة الفلسطينية أقدر على حسم قرارها بما يراعي مصلحة شعبها ويحفظ له حقوقه وكرامته واستمرار قضيته حية حتى يوم تحقيق مصيره

لن أضع نفسي مكان المقاومة، فلها حساباتها وتقديراتها واعتباراتها وقناعاتها، ولستُ من سكان قطاع غزّة، وليس لي فيها أقارب يعيشون تحت القصف بين الدمار والخراب يحملون أرواحهم على أكفِّهم وهو يتنقلون بالنهار والليل تحت لهيب الشمس في الصيف وصقيع البرد في الشتاء، ويبحثون عن ملاذ آمن لم يعد موجودا فوق الأرض التي حوّل الاحتلال كل شبر فيها أهدافاً شرعية وغير شرعية، يقصفها كيفما شاء ومتى شاء. لذلك يصعب على المرء الذي يجلس على بعد آلاف الأميال من "جهنم" كما سمّاها آلهتها، بنيامين نتنياهو ويسرائيل كاتس ودونالد ترامب، أن يُزايد على الأرامل والأيتام والثكالى والجرحى والمصابين والمعطوبين والجوعى والمشرّدين المهجّرين قسراً من مدنهم ومخيّماتهم وديارهم التي أصبحت أثرا بعد عين. لكن، أقول إن للمقاومة وحاضنتها الشعبية ألف عذر ومبرّر لعدم الاستسلام للعدو الذي يريد إبادتهم وتهجيرهم ومحقهم حتى لا يبقى لهم أثر، خاصة بعد التضحيات الكبيرة التي دفعوها، والصمود البطولي الذي أظهروه، والتعاطف الشعبي الدولي الكبير الذي اكتسبوه في قلوب ملايين الشرفاء في العالم. ولهم في تجاربهم السابقة مع عدو ماكر غدّار لا يحترم العهود والمواثيق ما يكفي من الدروس، حتى لا يُلدغون من الجحر نفسه مرّات عديدة. في 1982 عندما أجبرت المقاومة الفلسطينية في لبنان على الاستسلام والذهاب إلى المنافي البعيدة ماذا كانت النتيجة؟ ارتكب العدو الصهيوني، ومن خلال مرتزقته في لبنان، مجزرة صبرا وشاتيلا، وأبادوا تحت جنح الظلام آلاف الأطفال والنساء والشيوخ العزّل الأبرياء، لأن الرجال المقاومين وثقوا في وعود وسطاء استسلامهم وتركوا أهلهم وذويهم فريسة لعدو غدار نذل وجبان. وتكرّر الشيء نفسه عندما قبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إعلان اعترافه بإسرائيل، وتوقيع اتفاق سلام معها تحت إشراف دولي مقابل قيام الدولة التي ناضل طوال حياته من أجل وجودها، فماذا كانت النتيجة؟ تحوّل الزعيم التاريخي للمقاومة الفلسطينية إلى أسير مختطف داخل مقاطعته في رام الله، تحاصره الدبابات الإسرائيلية، وانتهى مقتولا بالسم الزُّعَاف من دون أن يحرّك "رعاة" السلام و"دعاته" ساكناً. أما الدولة التي وُعد بها فتحولت إلى شرطة بلدية في خدمة الاحتلال تراقب مواطنيها وتحصي أنفاسهم وتعتقلهم عند كل طلبٍ لتسليمهم إلى المحتل الذي يغتصب أرضهم ويهضم حقوقهم. وبعيداً عن أرض فلسطين وتجارب مقاومتها التاريخية الباسلة، لننظر إلى التاريخ القريب، في عام 2003 عندما شحن الرئيس الليبي معمّر القذافي، في خطوة مسرحية مهينة، معدّات برنامجه النووي ﻋﻠﻰ ﻣﺘﻦ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻣﺆﺟّﺮﺓ ﺗﺤﻤﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 500 ﻃﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺪّﺍﺕ ﺍﻟﻨﻮﻭﻳﺔ ﻭﺍﻟﺼﻮﺍﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪﺓ ﺍﻟﻤﺪﻯ ﻭﻣﻨﺼّﺎﺕ ﺇﻃﻼﻗﻬﺎ، وكل المعلومات التي كان يمتلكها بما فيها أسماء من ساعدوه في بناء برنامجه، إلى اﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ، لإبداء حسن نيته وتوسّلا لشطب اسم بلاده مما تُسمّى "لائحة الإرهاب العالمي"، ماذا كانت النتيجة؟ بعد سبع سنوات، في عام 2011 ستدمّر طائرات حلف الناتو جيشه وتستبيح أرض بلاده وسمائها، وينتهي هو وعائلته قتلى يُمثّل بجثامينهم على قارعة الطريق. أما الغرب الحر الذي وثق فيه القذافي فقد رحب زعماؤه بنهاية "طاغية" و"دكتاتور وحشي"! وأخيرا، وهذا درس آخر، وهذه المرّة من قلب أوروبا، عندما تنازلت أوكرانيا عام 1994 عن ترسانتها النووية، الثالثة في العالم بعد الترسانتين الروسية والأميركية، مقابل ضمانات من الولايات المتحدة بحمايتها، ها هو اليوم زعيمها، زيلينكسي، يُهان داخل البيت الأبيض، ويساق صاغراً إلى التوقيع على اتفاق استسلامه وهزيمته، ومقايضته بترك منصبه وتوقيع اتفاق نهب ثروات بلاده مقابل حماية ما تبقّى من أرضه وشعبه.

لا يذكر التاريخ أن مقاومة وطنية في العالم استسلمت لعدوها لإنهاء القضية التي تناضل من أجلها

من يطالب اليوم المقاومة الفلسطينية بالاستسلام، حتى لو فعل ذلك بحسن نيّة ورأفة بالضحايا الأبرياء الذي يسقطون يوميا في أبشع وأقذر حرب إبادة تنفذ على الهواء مباشرة، فهو يصطفّ موضوعيا إلى جانب الجلاد وضد الضحية. وبدلاً من لوم المقاومة الفلسطينية وحاضنتها المضحية، يجب توجيه اللوم إلى المحتلّ المجرم، وإلى كل من يدعمه ويشاركه في جرائمه، وإلى المتواطئين والمطبّعين معه والساكتين على جرائمه. المقاومة الفلسطينية، وخاصة "حماس" والفصائل المقاتلة داخل قطاع غزّة، هي أعلم الناس بغدر عدوّها ونذالته، وهي أقرب الناس إلى نبض قلب حاضنتها الشعبية ووجدانها، وهي أكثر الناس استيعابا لتاريخ تجارب شعبها منذ النكبة الأولى حتى حرب الإبادة الجارية. وأخيرا، هي أقدر الناس على حسم قرارها بما يراعي مصلحة شعبها ويحفظ له حقوقه وكرامته واستمرار قضيته حية حتى يوم تحقيق تقرير مصيره بنفسه وإعلان انتصاره، وليس ذلك عند من يؤمن بقضيته ويضحّي من أجلها ببعيد.