نحو هندسة سياسية رقمية لحزب الإنصاف

  الشيخ بوحبيني

في عصر تُدار فيه الدول بعقلية الخوارزميات، وتُقاس فيه النجاحات بالمؤشرات، ويُبنى فيه القرار على النماذج والتحليل، لا يمكن لحزبٍ بحجم حزب الإنصاف، الذراع السياسي لفخامة رئيس الجمهورية، أن يظل حبيس طرقٍ تقليدية لا تنتمي لعصر السرعة ولا لمنطق القرن الحادي والعشرين. فالعالم اليوم لم يعد ساحة خطابات فقط، بل منظومة معقّدة من المعادلات السياسية، حيث لكل متغير وزنه، ولكل فاعل معامل تأثيره، ولكل قاعدة شعبية قيمة حقيقية يمكن قياسها والتحقق منها.

إن ما يعيشه الحزب من ضبابية وتجاذبات ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة مباشرة لغياب نموذج تشغيل واضح، ولعدم اعتماد نظام تصنيف عقلاني للفاعلين السياسيين. ففي الهندسة، لا يمكن لأي منشأة أن تصمد دون مخطط، ولا لأي نظام أن يعمل دون معمارية واضحة. وكذلك الأحزاب؛ إذ لا تستقيم دون هيكلة دقيقة تُوزَّع فيها الأدوار بناءً على الجهد، والحضور، والقدرة على التأثير، لا على القرب الافتراضي أو الوجود الشكلي.

الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن السياسة الحديثة تشبه كثيراً علم الأنظمة: مدخلات واضحة، ومعالجة عادلة، ومخرجات منطقية. المدخلات هنا هي المناضلون، الشباب، المنتخبون، القواعد الشعبية الحقيقية، أما المعالجة فهي خوارزمية سياسية شفافة، تُقيِّم كل فاعل وفق معايير قابلة للقياس: عدد المنخرطين الفعليين، الحضور الميداني، القدرة على التعبئة، والاستمرارية في العمل. أما المخرجات، فهي المناصب والمسؤوليات، تُمنح كحصيلة طبيعية لمجموع هذه المتغيرات، لا كهباتٍ خارجة عن المنطق.

ليس من المعقول، في منطق الرياضيات السياسية، أن يتساوى من يملك قاعدة جماهيرية واسعة مع فاعل افتراضي لا يعرف حتى إحداثيات الحزب ولا أسماء مسؤوليه في دائرته. فذلك يشبه إعطاء نفس الوزن لمتغير صفري وآخر ذي قيمة عالية، وهو ما يؤدي حتماً إلى انهيار المعادلة كلها. العدالة الحزبية، كما في الفيزياء، لا تتحقق إلا بتوازن القوى، وكل إخلال بهذا التوازن يولد اضطراباً في المنظومة.

إن التحول الرقمي داخل الحزب لم يعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة تنظيمية. فقاعدة بيانات دقيقة للمناضلين، ونظام تتبع للأنشطة، ومؤشرات أداء سياسية، كلها أدوات ترفع الحرج عن القيادة، وتحمي المرجعية الحزبية، وتجعل القرار مبنياً على الوقائع لا الانطباعات. حينها يصبح كل فاعل تحت “قضاء” القوة السياسية الحقيقية: قوة الإقناع، وقوة الحضور، وقوة العمل الميداني.

كما أن المهام التفتيشية، إذا أُديرت بعقلية هندسية، ستتحول من أداة صدام إلى أداة تصحيح. هي بمثابة اختبارات الجودة في الصناعة، تُراجع الوحدات، وتُعاين مدى تماسكها، وصدق انخراطها، وقناعتها بالمشروع الحزبي. وبهذا ننتقل من شعبية آنية، غير مستقرة، إلى شعبية حقيقية، مستدامة، نابعة من اقتناع لا من تسجيل عابر أو تعبئة ظرفية.

الرهان الأكبر في هذه المعادلة هو الشباب. فهم الطاقة الكامنة، والكتلة الحرجة التي إن أُحسن توجيهها تحوّل الحزب إلى نموذج يُحتذى. الشباب هم المتغير الديناميكي الذي يعطي للمنحنى السياسي تسارعاً إيجابياً، وهم القادرون على استيعاب منطق الرقمنة، وفلسفة الأداء، وروح المنافسة الشريفة.

إن حزب الإنصاف، إذا ما اختار طريق الإصلاح الجاد، يستطيع أن يعيد ضبط بوصلته، ويحوّل التيه إلى اتجاه، والضبابية إلى وضوح، والتجاذب إلى تكامل. عندها فقط ستعمل المعادلة السياسية بكفاءة، وسينال كل ذي حق حقه، ليس بشعارٍ مرفوع، بل بمنطقٍ رياضي عادل، وهندسة تنظيمية صلبة، وفكرٍ عميق يليق بحزبٍ يقود الأمل ويجسّد الإنصاف.