د. إزيدبيه الامام
لا يمكن للباحث في التراث العلمي الشنقيطي إلا أن يتوقف عند العالم الشنقيطي الكبير الشيخ محمد الاغظف بن أحمد مولود بن خي الوسري الجكني دفين المغرب، وما من شك أن هذا الجكني العلامة قد ترك بصماته بوضوح في التاريخ والتداول الثقافي والمعرفي في بلاده وفي المملكة المغربية، منذ أن حط الرحال هنالك، وأخذ مساره الطويل في تكوين الرجال وتوجيه الوجدان العلمي والذاكرة والذائقة الثقافية والأدبية.
وإذا لم يتسع المقام في هذه الترجمة لكل تفاصيل ومجالات هذه الشخصية الفريدة، فهي أيضا أضيق عن الإحاطة بالحياة والتراث العلمي الذي أقامته مجموعات الوسرة، حيث أقامت حضارة أخرى ودولة علمية من آثار المدرسة الجكنية داخل البلاد وخارجها.
في المبتدأ الاجتماعي والعلمي
ينتسب العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود بن خي بن محمد عبد الدائم بن عبد الله بن محم المحظري الإبراهيمي الجكني الوسري إلى أرومات علمية شامخة، ذات تأثير رفيع في التاريخ العلمي في منطقة الحوض، وفي الامتداد العلمي لمجتمع البيظان في أرضه التي تمتد ثقافيا وتاريخيا في عدة دول حالية.
وتعتبر مجموعة الوسرة ائتلاف من ثلاثة أفخاذ من قبيلة تجكانت وصلت إلى منطقة الحوظ على تفاوت وتقارب، ويتعلق الأمر بأسر من أولاد أبراهيم، وأخرى من إديشف، وأخرى من لكواليل، قبل أن تلتحق بهم مجموعة رابعة من فخذ أرماظين، ومع الزمن تشكلت ضمن هذا الائتلاف بطون الوسرة في ائتلاف يجمعه نسبا القرابة والعلم والعمل.
وتعتبر هذه المجموعة من أقدم قبائل الزوايا في منطقة الفاصلة بين فضاء منطقة الباطن، في رحلة علم وانتجاع تمتد شمالا وخريفا إلى منطقة "أنترش" شرقي مدينة النعمة، قبل أن تعود شتاء جنوبا إلى منطقة "بنكو والمطلق وبوطويبه، والاجواد" قبل أن ينزاحوا جنوبا في الصيف إلى منطقة "انيوط وقدني وفدرة" في الحيز الفاصل حاليا بين مقاطعتي آمرج وعدل بكرو ومنطقة مقاطعة باسكنو([1]).
وقد ارتبطت مجموعة الوسرة بالمعارف الإسلامية، فوفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب، وأقامت حضرة علمية عظيمة التأثير، كما ربطتها علاقات مودة وإخاء وحسن جوار مع مختلف المجتمعات المشكلة لمجال الحوض الشرقي وخاصة إمارة أولاد امْحُمُّد.
وقد كان من ميزات مجتمع الوسرة بشكل خاص، التكفل التام بالطلاب المقيمين في أرجاء المجموعة، وبين محاظرها، في تقليد شنقيطي عريق، حافظت عليه هذه المجموعة وطورت نظاما مجتمعيا خاصا به، يمكّن كل أسرة من أن يكون لها نصيب من الاحتفاء والتكريم الخاص بالطلاب.
وقد اشتهرت محاظر مجموعة الوسرة، وانتشر صيتها، وإن لم تنل حظها من التوثيق والتاريخ، ولم ينل أعلامها نصيبهم من الترجمة والتعريف، ومن أشهرها:
- محظرة العلامة اخيارو ولد سيدي آفه: وقد كانت محظرته ذات تأثير بالغ في المنطقة، وقد بلغت مداها خلال الثلث الأول من القرن الثاني عشر، وقد امتازت محظرته بتفرغ شيخها لها، وكثرة طلابها، إضافة إلى دوره الإصلاحي حيث كان القائد العام لمجتمع الوسرة، وقد خلفه في المحظرة والقيادة العامة تلميذه الشيخ المختار بن محمد.
- محظرة الشيخ أحمد بن الامام الوسري اليوسفي الجكني: وهو أحد كبار تلاميذ ومريدي الشيخ محمد تقي الله بن محمد فاضل ولد مامين القلقمي، وقد درس عليه في منطقة "تِكِيكَلْ" قرب ولاته، وقد أقام الشيخ أحمد بن الامام محظرة وحضرة علمية كبيرة، واشتهر بالورع والانشغال بالتعليم والعبادة.
وقد تربى العلامة محمد الاغظف -المترجم له- بين أبوين صالحين، هما والده العابد الرباني وأمه خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودية، وقد كانت موصوفة بأنها من سيدات العلم المشاركات في مجالات منه متعددة.
وقد اختار الأبوان الكريمان لابنها التسمي باسم الولي الصالح محمد الاغظف بن حمى الله بن سالم الداودي ([2])، وتذهب أغلب المصادر التي تناولت حياة الشيخ محمد الاغظف إلى أن ميلاده كان في حدود 1262 هجرية، الموافق 1846 م، ويعتقد أنه ميلاده كان في ضواحي مدينة النعمة.
وككثير من العظماء فقد كان لوالدة هذا الشيخ دور كبير في تنشئته، بعد وفاة والده وهو في سن مبكرة جدا، فعاش في محيط علمي مفعم بقيم المعرفة وشغف التحصيل المعرفي والتنافس في ذلك.
دراسته وأهم شيوخه
أخذ الشيخ محمد الاغظف الوسري القرآن الكريم ومبادئ العلوم الشرعية واللغوية في مجتمعه، وعلى عدد من شيوخ حيه، قبل أن ينطلق في رحلة علمية استمرت عدة سنوات، وشملت حواضر علمية مهمة مثل ولاته، وفيها درس الفقه والأصول والحديث على شيخه وخاله القاضي النوازلي أحمد بن عبد المالك الداودي الولاتي المتوفى سنة 1303 ه، وقد توجت دراسته عليه بإجازته في الفقه، فيما نال إجازة أخرى من الشيخ محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي، وقد كانت إجازة شاملة لمعارف واسعة من الحديث الشريف رواية ودراية وأصول الفقه ومختلف علوم اللغة العربية.
ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة تيشيت حيث أقام فيها فترة زمنية، جمع فيها بين الدرس على شيوخ وعلماء هذه المدينة وبين المطالعة والبحث في مكتباتها، قبل أن ينتقل إلى مدينة تمبكتو، ذات المكتبات العلمية الكبيرة.
ولعل البحث والمطالعة كان الدافع الأول لهذه الرحلات، قبل أن يؤوب إلى مجموعته، ليؤسس محظرته العلمية الخاصة، وليستقبل أفواج الطلاب من محيطه، ومن المجموعات القبلية المجاورة، وقد ظلت محظرته متنقلة بين أحياء الوسرة في رحلات انتجاع تمتد من ضواحي النعمة إلى منتهى منطقة كوش لكحل.
وقد أثرت هذه المحظرة بقوة في منطقة الحوض، ودرس فيها عدد كبير من العلماء مثل بعض أبناء مايابى وخصوصا الشيخ محمد الخضر بن مايابى.
ويبدو أن هذه المحظرة قد انطلقت والشيخ في حدود العقد الثالث من عمره، حيث يذكر أن تلميذه الشيخ محمد الخضر قد التحق به في حدود 1298 ه، وقد أجازه في قراءة نافع وفي عدد من المتون الفقهية.
وقد كان لهذه المحظرة ميزة خاصة، وهي نشر احمرار العلامة المختار بن بونه على ألفية ابن مالك والطرر العلمية المتعلقة به في منطقة الحوض ([3])، وهو ما مثل تحولا نوعيا في دراسة النحو في تلك الأرجاء.
ومن تلاميذه أيضا:
- العلامة محمد الأمين بن إبراهيم الإبراهيمي الوسري، وقد أقام هذا الشيخ محظرة عظيمة ومؤثرة بعد انتقال شيخه إلى المملكة المغربية.
- محمد المختار ولد أكاي الوسري: الذي أسس هو الآخر محظرة علمية كبيرة.
- أحمد ولد محمد آبه الوسري: وهو أيضا شيخ محظرة خرجت كثيرا من العلماء والحفاظ.
وخارج مجتمعه القريب فقد كان للشيخ تلاميذ كبار مثل الشيخ سيدي بن محمد إلياس الجماني، وغيره ([4]).
رحلة الحج ومقدمات الهجرة إلى المغرب
لم يكن انتقال العلامة محمد الاغظف إلى المملكة المغربية إلا مرحلة ثالثة من رحلاته الإيمانية والروحية، فقد كانت رحلاته الثلاث لأداء الحج فرضا وتطوعا.
وقد أقام الشيخ محمد الاغظف في بلاد الحرمين الشريفين، وكانت له مطارحات علمية وأدبية مع عدد من العلماء المشارقة.
شيخ السلاطين والعلماء المغاربة
يظهر من مختلف ما كُتب عن الشيخ محمد الاغظف الوسري وما روي عنه، أن سمعته العلمية قد سبقته إلى القلوب والمجامع العلمية، وشقت له طريقا سميا إلى المحافل العلمية المؤثرة في المملكة المغربية، وقد كان لقاؤه مع السلطان الحسن الأول بن محمد سنة 1311هــ تحولا في مسيرة الشيخ ومسيرة المعارف الشرعية في البيت السلطاني.
وقد أعجب السلطان بعلم الشيخ وسمته وورعه، فوكل إليه تدريس آل بيته، وقد كان للسلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول نصيب وافر من الدراسة على الشيخ محمد الاغظف.
وبشكل أكثر تحديدا فقد درس السلطان عبد الحفيظ على الشيخ الشنقيطي فنون الفقه واللغة العربية وأصول الفقه والحديث النبوي الشريف، وقد أخذت هذه العلاقة أكثر من بعد عميق، فقد كان السلطان "تلميذ ركبة" للشيخ الوسري، الذي كان معجبا بذكاء تلميذه.
وقد أثمرت هذه العلاقة تأثيرا عميقا للشيخ محمد الاغظف في الحياة العامة في المغرب في مستوياتها العلمية والأدبية والسياسية، وذلك عبر مناح متعددة أبرزها:
1. استقدام العلماء الشناقطة: تحول منزل الشيخ محمد الاغظف إلى محجة ثابتة للعلماء الشناقطة في طريقهم إلى الحج، كما مهد الشيخ للعلماء الشناقطة إقامتهم واستقرارهم في المملكة المغربية، ومن هؤلاء على وجه الخصوص أبناء مايابى، والباشا محمد البيضاوي بن أمانة الله، الذي كان تعيينه قاضيا ثم باشا بسبب تزكية من الشيخ محمد الاغظف.. وغيرهم كثير.
وقد كانت العلاقة بالشيخ محمد الاغظف أهم البوابات إلى السلطان والعرش والمنابر المغربية، حيث تذكر الروايات المتداولة أن أبناء مايابى أقاموا فترة في السمارة في حضرة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل، وقد أرادوا الاتصال بالعرش المغربي ولم يتسن لهم ذلك إلا على يد الشيخ محمد الاغظف الذي قدم وزكى أبناء مايابى أمام المولى عبد الحفيظ، وقد أنتج هذا اللقاء تقدير السلطان لأبناء مايابى وإكرامهم بما مكنهم من متابعة رحلتهم العلمية إلى المشرق، حيث كانوا هنالك أقمار السفارة الشنقيطية.
2. خدمة ونشر التراث الشنقيطي: وقد أخذ هذا الأمر مسارات متعددة منها على سبيل المثال:
3. طباعة المؤلفات والمتون المحظرية: وفق ما هو متداول في الروايات الشفهية الكثيرة حول حياة الرجل.
4. تدريس المتون المحظرية الشنقيطية ونشرها في المحافل العلمية المغربية، وقد دخلت هذه المتون بشكل عميق إلى المدرسة العلمية المغربية.
5. صياغة الشخصية العلمية للعرش المغربي: وذلك عبر التأثير العلمي والروحي العميق لتلميذه السلطان عبد الحفيظ الذي يصفه المؤرخ محمد المختار بن أباه حين يقول "ويبدو أن المولى عبد الحفيظ قد تركزت معارفه في المدرسة الشنقيطية التي اعتمد منهجها في الشرح والنظم وفي الأصول المرجعية وهي مدرسة ابن مالك والمختار انجبنان الشنقيطي والمختار بن بونه الجكني والشيخ بن حبت القلاوي وسيد محمد الاغظف الحوضي" ([5]).
وغير بعيد أن يكون قلم الشيخ محمد الاغظف وتوجيهاته وتنقيحاته، كانت الأساس أو الركيزة التي اعتمد عليها المولى عبد الحفيظ في مؤلفاته، خصوصا أن للملوك في مشاغل الحكم وتدبير شأن السياسة والرعية، ما يضيق دائرة الفراغ، ويحد من جريان قلم التأليف.
وينقل السوسي في معسوله قصة أخرى عن ورع الشيخ محمد الاغظف حيث يقول "وحدثني الباشا منُّو أيضا قال رجع الشيخ ماء العينين إلى مراكش حين كان مولاي عبد الحفيظ خليفة أخيه هناك، فوجدنا هبت علينا نسمات من الحياة الجديدة العصرية، وقد تزلزل اعتقادنا فيه (...) قال الباشا: ومن الشنگيطيين عالم ورع إلى الغاية لم أعهده يرسل لسانه في أحد يسمى محمد الاغظف، وهو من الذين يصاحبهم الخليفة مولاي عبد الحفيظ ويؤلفون له ويذاكرهم في مجالسه العلمية، وحين أكثر الناس في انتقاد الشيخ ماء العينين، أقبلت أسائله عن أحواله، فأشار إلي أن أشتغل بذات نفسي" ([6]).
ويؤكد العلامة محمد المختار ولد اباه أن المولى عبد الحفيظ اعتاد أن يردد ذكر اثنين من شيوخه، ويورد إملاءاتهما وأنظامهما، وهما مولاي علي الروداني الإدريسي، وسيدي محمد الاغظف ([7]).
وقد أنعم السلطان عبد الحفيظ على شيخه بإكرام كبير، واحتفاء معنوي يوازيه ويكمله احتفاء مادي وقد أوقف السلطان على "محمد الاغظف وعلى ولده محمد عبد الله وعقبهما ما تناسلوا وامتدت فروعها جميع البياض المسمى بأرض سيدي أحمد الرحالي بتسلطانت وبوره وجميع أربع فرديات عن كل عشرة أيام من ساقية تسلطانت حبسا مؤبدا وتضمن الظهير الحفيظي تحديد الأرض المذكورة وبورها وهي نحو ألفي هكتار" ([8]).
6. صياغة التوجهات العامة للمملكة: حيث ولاه تلميذه السلطان عبد الحفيظ منصب الإفتاء العام في المملكة المغربية، وأطلق يده مع العلماء الشناقطة الذين كان يستضيفهم الشيخ الوسري، واعتمد عليهم في تصحيح الكتب والمقررات العلمية وتحديدها وتوجيهها، وهو المسار الذي أثمر لاحقا صياغة المؤسسات العلمية والجامعات التي قادها عدد من تلاميذ الشيخ وتلاميذهم.
شيخ الأمراء الذي ناصبته فرنسا العداء
لا يمكن الحديث عن الشيخ محمد الاغظف الوسري دون التوقف عند جانب مهم من شخصيته وهو المقاومة والتصدي للاستعمار الفرنسي للمغرب.
وقد تجاوز الشيخ الوسري مقاومة المستعمر الفرنسي إلى إدارة الشأن السياسي والإسهام بقوة في صناعة التغيير في العرش المغربي، حيث كان على رأس مجموعة من العلماء الذين أفتوا بعزل السلطان عبد العزيز بن الحسن الأول لما رأوا فيه من الضعف والخور وتحكم الفرنسيين فيه، وقد تم لهم ما أرادوا، وتولى الشيخ محمد الاغظف إبلاغ السلطان المخلوع بقرار العلماء، ممهدا بذلك الطريق لتولية تلميذه السلطان عبد الحفيظ ([9]).
وقد كانت هذه الخطوة مؤلمة للفرنسيين، فلم يغفروها أبدا للشيخ محمد الاغظف، وقد اضطرتهم للتكشير عن أنياب الانتقام الشديد، فأبعدوا السلطان عبد الحفيظ إلى مرسية الفرنسية سنة 1330، في رحلة إبعاد ذات محطات متعددة، كما فرضوا على الشيخ الوسري إقامة جبرية حتى وفاته في مراكش سنة 1337هج، كما صادروا ما كان قد أنعم به السلطان عبد الحفيظ على شيخه ومرشده من مال وعقار ونفوذ ([10]).
وقد كانت وفاته حدثا ضخما في المملكة، حيث كانت جنازة من أعظم مشاهد الفقد في تاريخ المغرب، وقد شيعه إلى مثواه في روضة الإمام السهيلي أهل مراكش بأكابرهم وعامتهم ونخبهم، ولم ير يوم أكثر باكيا مثل يوم وداع الشيخ الوسري.
وقد كانت هذه الجنازة المهيبة ختام مسك لتاريخ طويل امتد قرابة 25 سنة من التأثير النوعي والفعال والخالد للشيخ الوسري في وجدان المغاربة بشكل عام.
عقبه وآثاره
ترك الشيخ محمد الاغظف الوسري أبناء بررة من العلماء والأسياد، وبنات فكر خالدة من المؤلفات النافعة، وقد خلف الشيخ رحمه الله تعالى أبناء تفرعوا إلى أسر كبيرة تفرقت في أنحاء من المنطقة، وقد ترك في منطقة الحوض الشرقي أبناءه:
1. الطالب أعل: وقد كان أحد أعيان قومه وسادات الحل والعقد في مجتمعه، وخلفه ابنه محمد الاغظف سمي جده، وقد كان عالما مدرسا وعابدا ناسكا.
2. مريم: وهي سيدة صالحة مربية وهي والدة العلامة محمد فضل الله ولد أهل أيده الوسري.
3. آسية: وكانت مثل سابقيها امرأة صالحة عابدة، ومن خلفها ابنتها الحاجة خديجة بنت عبد الدايم.
4. خديجة: وقد تركها والدها في أزواد، حيث أقام هنالك فترة في طريقه إلى الحج.
أما في المغرب: فقد ترك عقبا متعددا منه على سبيل المثال:
- محمد عبدُ الله: وأمه سيدة صحراوية من أهل مراكش.
ويعتقد أنه له عقبا كثيرا في المغرب، خصوصا أبناؤه الذين توفي عنهم وهو قيد الإقامة الجبرية في مراكش ([11]).
كتبه ومكتبه
اقتنى الشيخ محمد الاغظف الوسري مكتبة ضخمة، وقد تفرقت بين المناطق التي زارها وأقام فيها هذا العلامة، ومنها على سبيل المثال تمبكتو وأروان ومكتبة آل الشيخ في الجزائر ومكتبات توات ومكتبات أهلية في مراكش إضافة للخزانة الملكية في الرباط.
أما مؤلفاته فمن أشهرها:
1. شرحه المحكم لمنظومة "السبك العجيب لمعاني حروف مغنى اللبيب" وهو نظم ألفه تلميذه المولى عبد الحفيظ، وطبع في مصره في عهده، وهو أول كتاب شنقيط وجد طريقه إلى الطباعة سنة 1325 هـــ قبل كتاب الوسيط الذي طبع بعده سنة 1339 هـــ.
2. كتاب شرح "الياقوت في علم الفروض" للشيخ سيد المختار الكنتي الصغير وتوجد منه نسخة في إحدى مكتبات توات بالجزائر.
3. شرح الخزرجية في العروض والقوافي، لأبي القاسم محمد بن أحمد الشريف السبتي.
4. شرح نظم ابن الحاج حمى الله في العروض.
وقد ضاعت كثير من كتب الشيخ الوسري بسبب أوضاع المغرب حينها، وكذا الاعتداء الفرنسي على الشيخ وعلى تراثه العلمي، إثر الإقامة الجبرية، كما أن عددا من كتب الشيخ محمد الاغظف وآثاره العلمية قد نسبت إلى علماء آخرين.
ذاكرة الإشادة والتقدير
أجمعت كلمة المترجمين للشيخ ومعاصريه على علو كعبه في المعارف العلمية، وعلى فضله ومكانته، وأنه كان نسيج وحده في المعرفة الواسعة، والعبادة والسمت الإيماني، وفي الصلابة والصرامة، وأن هيبته كانت تخلب القلوب، وتفتح له السبل إلى قلوب الخاصة والعامة على حد سواء، كما أجمعوا على زهده وترفعه وبعده عن الدنيا، وتعلقه بالدار الآخرة.
ومن تلك الشهادات ما كتبه تلميذه السلطان مولاي عبد الحفيظ، في مقدمة كتابه "العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل" يقول: "أما بعد فإني منذ زمن الشباب وقلبي مشتاق للعلم وأهله حتى جمعني الله مع كثير من العلماء فازداد قلبي لهم حبا وتيهوني فما ملكت معهم عقلا ولا لبا ولا سيما علماء شنقيط الذين تحلوا بحلي لا يكاد القلم يحيط ولي فيهم والحمد لله عدة شيوخ سامرتهم ومارستهم في قراءاتهم وعباداتهم، فمن أشياخي منهم الولي الصالح والقطب الواضح ذو التآليف العديدة والفوائد المفيدة والقدم الراسخ في معرفة الله عز وجل، سيدى الشيخ محمد الاغظف، حج وهاجر واعتكف وقام من الليل نصفه أو كله، رجلٌ من أهل الجنة على وجه الأرض، لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غيبة في الجمع ولا في البعض، إذا زنته بقوله تعالى {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} وجدت ذلك له مقاما ([12]).
وصفه الشيخ الشريف محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني في كتابه الماتع "الإفادات والإنشادات" بالعالم المشارك الأصولي النحوي البياني الناسك الصالح محمد الاغظف بن أحمد الصحراوي نزيل مراكش وبها لقيه سنة 1332 ه، وأنشده لنفسه أبيات في أهم مسائل علم الكلام وكتبها له بخطه قائلا له أتيتك بها لأشيخها عليك:
فكــــــل واقــــــع بقــــــــــــدرة الإلــــــــــــــــــــــــــــــــه ** إرادة وعلمـــــــــــــــــــــــه مـــــــــــع الحيــــــــــــاهْ
ومثلهـــــــا القضاء معنى والقـــــــــــــــدر ** والمقضى والمقدور مكسوب البشر
فــــــالله خـــــــالقٌ وغيــــــرُ مُكتَــــــــــسِبْ ** والعبـــــدُ غيرُ خــــــالقٍ بـــل مُكتَـــــــسِبْ
فبـــاعتبـــــــار خلقــــــــــه الحقيقــــــــــــــة ** وباعتبـــــــــــــار كــــــــــــسبنا الــــــــــــــــــــــشريعة
فالعبـــــــد مجبـــــــورٌ لـــــدى الحقيقــــــــة ** بالكــــــــــسب مختــــــــار لــــــدى الشريعة
فخلقــــــــه فـــــــــضل وعــــــدل أحـــــسن ** وكــــــــــــــسبنا حـــــــــــــسن أو مـــــــــــستهجن
فاعتبــــــار خلقــــــــه الرضــــــى يجـــب ** بكــــــل ما قـــــضى بعكـــس مـا كُـسب
فالـــــــــــــــــــــــــــــذاكرُ الله لأن الفـــــاعلا ** فــــي غيـــــــره هـــــــــو المـــــــــــسمى فـاعلا
ونــــــــزه الله عـــــــن الفحــــــــــــــــشاء فــــــــــي ** لفظـــــــك وأنبـــــــــه مـــــــع الكـــــــل تفــــــي
الله خـــــــــــــــــــــــــالقٌ لكــــــــــــــــــــــل شيء أو ** ربــــــــــــــــــــك يخلـــــــــــــــــــــــق ويختـــــــار رووا
هـــــــــــــذا هــــــــــــــــــــــو الــــــــسنة والمعتزله ** فـــــــــي غايـــــــــــة الــــــــــضلال والجبرية ([13]).
وختاما فإنني أرجو أن تسد هذه الترجمة ثغرا عظيما في تاريخ أعلام علمائنا الميامين، وتعريفا بتراث هذا العلم ذي الإسهام الجليل في سفارتنا الثقافية في الغرب الإسلامي التي يقل فيها تخليد عطاء أعلامنا وإشعاعهم العلمي، رغم كثرة ورودهم تلك الأقطار وتوطنهم فيها، وأن تكون خطوة أخرى في طريق التعريف بهذا العلم الكبير والإمام الجليل ذي الأثر الباهر والسيرة العطرة، وأن يتكلل ذلك بطبع ونشر ما بقي من تراث الرجل الذي أنجبته الصحراء الشنقيطية، ليرفع لها وبمعارفها سيرته الباقية في الخالدين.
[1] - روايات شفهية متداولة إلى حد التواتر لدى كبار السن والرواة في المنطقة.
[2] - هو الشيخ محمد الأغظف بن حماه الله بن صالح الجعفري الداودي (1218هـ)، عالم ومصلح ومرب صوفي، تنسب إليه الطريقة الغظفية، وهي إحدى فروع الشاذلية، ولها انتشار كبير في شرق ووسط موريتانيا، وحضور في مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
[3] - مقابلة أجريتها مع حفيد الشيخ، الأستاذ إبراهيم ولد محمد فضل الله.
[4] - المرجع نفسه.
[5] - ولد أباه، تاريخ النحو العربي بين المشرق والمغرب، طبعة دار الكتب العلمية، ص 424.
[6]- المختار السوسي، المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم وأصدقائهم، طبعة دار الكتب العلمية، ج4، ص 84.
[7] - ولد اباه، تاريخ النحو العربي، المرجع السابق.
[8] - القاضي عباس بن إبراهيم السملالي المراكشي المالكي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، ط2، المطبعة الملكية – الرباط، ج، ص218.
[9] - نقلا عن بعض أحفاد الشيخ.
[10] - مقابلة مع بعض أحفاد الشيخ.
[11] - مقابلة مع بعض أحفاد الشيخ.
[12] - مولاي عبد الحفيظ، العذب السلسبيل، المطبعة المولوية بفاس 1326هـ، ص2.
[13] - محمد عبد الحي الكتاني، الإفادات والإنشادات وبعض ما تحملته من لطائف المحاضرات، منشورات المجلس العلمي المحلي للعرائش، ط1، 2016م، ص: 119 – 120.
