الوعظ المؤثر قسمة ربانية

 

 الدكتور الشيخ أحمد البان

تأثير الواعظ في السامعين قبس من النبوءات، ومنحة ربانية يهبها الله للصادقين من عباده، وفيها أسرار لا يمكن تفسيرها إلا بأنها أمر الله، فكم من واعظ كثير العلم قوي العبارة فصبح الأسلوب حسن السمت ظاهر النسك تمر موعظته بقلبك كما تمر القطرة على الصفاة، بينما يهزك كلام واعظ آخر يحسبه النمطي -ما لم يسمعه-رقيق دين أو مستور حال، لكن الله وهبه قوة التأثير وصدق الأثر، ولله في خلقه شؤون.

أقصد بما سبق أن التأثير في حقيقته وهبٌ إلهي محض، "… يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد"، هي -إذن- قسمة ربانية.

أذكر امرأة فاضلة -رحمها الله- في قرية "تمبدغتْ أهل أحْمَد لِّحبيبْ"، قرب الطينطان، تقول إنها تعجب من داعيتين يأتيان القرية لإلقاء مواعظ ودورس، أحدهما كان صاحب لهو ومجالس قبل توبته، أما الثاني فلم يرفث ولم يفسق في حياته، شاب نشأ في طاعة الله، وأن مواعظ الأول "تدخل الگلب" أما الثاني فلا يؤثر فيها وعظه، ولم تزل طيلة حياتها تذكر هذه الملحوظة، وتعجب منها.

كان ابن الجوزي أحد الدعاة القلائل المؤثرين، وكانت مجالسه في بغداد تشتاق، وتشد إليها الرحال، فيفد إليها الناس من كل حدب وصوب؛ نساكا وفجارا وظلمة ومظلومين، ثم يخرجون وقد رقت قلوبهم، وحلقت أرواحهم، وتعالوا على ضرورات الطين، فأدوا الحقوق وتقاضوا المغارم، يكب الظالم على من ظلمه يستعفيه، ويسبل المذنب والفاجر دموع الندم والتوبة فيشعر براحة الإيمان وصدق التوجه وقوة العزيمة.

كان الرحالة ابن جبير أحد هؤلاء الذين اشتاقوا مجالس ابن الجوزي، وقد سمع عنها وهو بعيد في أصقاع الغرب، فلما زار المشرق في رحلته حضر مجالس للرجل الذي طبقت شهرته الآفاق، فكان الخبر أكثر إدهاشا من السماع، فكتب متأثرا بتلك المجالس، واصفا ما يحدث فيها من تحول كبير في النفوس والحقوق والاجتماع، قال: "… ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بيّنات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقا، الى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعيا له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة".