محمدـ/ سيدناعمر
هجر عالم الماديات المفعم بالرفاهية والكثير من الرتابة والخواء الروحي..
في أحد البلدان الأوبية حيث جمال المناخ وجودة الحياة وتوفر كل وسائلها المادية ومغرياتها..
وجد في نفسه دوافع مغرية بالهجرة عن عالم الماديات الأوروبي، حيث لا حياة إلا بالمادة وقيمة الإنسان بما يملك.
كانت الوجهة إلى " غينيا بيساو" حيث الشواطئ ذات الرمال البيضاء المتلألئة، والغابات العميقة، والخلجان المتدفقة..
ولم يدر بخلده أنه على موعد مع إشراقة ستغير حياته إلى الأبد
الوصفة الناجعة:
يقول مانويل داسيلفا الذي أصبح يلقب بـ"عثمان" بعد أن اعتنق الدين الإسلامي :
السبب الذي جعلني أزور القارة الإفريقية هو أن "الدول الأوربية" متشابهة إلى حد كبير، فقد زرت بعضا من بلدانها ولم أشعر بفوارق تذكر؛ فلا فرق بين بريطانيا ولا فرنسا من حيث العمران والسكان إلا أن الأولى بها ساعة "بيك بن" وتتحدث اللغة الإنكليزية، والثانية بها "برج إيفل" وتتحدث الفرنسية..الأمر ينطبق على سائر دول "القارة العجوز"
كنت شابا شغوفا بالحياة والترحال، فلبيت دعوة صديقي الغيني بالتعرف على بلده، ووجدت أن ذلك مغريا، فبيساو مستعمرة برتغالية، وبذلك فالعائق اللغوي متجاوز والبرتغالية تجري على الألسن هناك.
وصلت بيساو عام 2003 انفتح باب الطائرة كان الجو حارا، وكان المسلمون يعيشون أجواء "شهر رمضان" .. أقمت أياما بفندق قريب من مطعم برتغالي، كنت أزوره من حين لآخر.. وألتقي بأبناء جلدتي القادمين من بورتو ولشبونة وماديرا..
بعد أسبوعين طاب ليّ المقام بهذا البلد الجميل، فقررت الزواج واستأجرت منزلا وأقتصد في النفقات.. تعرفت على إخوة من "موريتانيا" وهم جالية معتبرة ومحترمة في "غينيا" وقد اهتدى على أيديهم الكثير لمعاملاتهم الطيبة وتدينهم الفطري.
كثيرا ما كان يحدثني الصيدلاني محمد ببرتغاليته الإفريقية عن الإسلام وعن خالق الكون ومدبر أرزاق العباد.. وكنت في البداية عنيدا كسائر البرتغاليين الذين لا يعرفون سوى الانهماك في الماديات والشراب والتمتع بالحياة.
وذات يوم أحسست بصدري يتسع لهذا الحديث، كنت أدون بعض الأسئلة في دفتر صغير، وأنتهز فرصة احتساء الشاي معه، حتى أحصل منه على أجوبة تقنع فضولي.
هنا لا أنسى الجهد الذي قام به صديقه "أدّو" فقد كان هو الآخر طيبا ودودا ويحب الخير لسائر الناس، ويتمنى أن يرى شفتي تفتران عن كلمة الشهادة.
في صباح يوم الجمعة استيقظت منشرح الصدر، ورغبتي جارفة في اعتناق "الدين الحق" أعددت فطورا سريعا وتحركت في اتجاه صديقيّ: محمد وأدو، وأخبرتهم أنّ الله هداني لطريق الحق وسألتهم عن شروط دخول المرء في دين الإسلام.
كان الفرح باديا على وجوههم الطيبة، وطلبا مني الانتظار حتى وقت صلاة الجمعة، لأذهب معهم إلى المسجد الجامع، وأعلن إسلامي في محفل من الناس.
بعد صلاة الجمعة نطقت الشهادتين، وعلت صيحات التكبير أرجاء الجامع، وأصبحت فردا ضمن أمّة المليار مسلم وـ الحمد لله ـ كنت أتلقى دروسا خصوصية في بيت أحمد عن الصلاة والطهارة.. ونصحني لاحقا بعد أن رأى رغبتي الشديدة في طلب العلم أن أذهب إلى بلده موريتانيا، وأزور محظرة "أم القرى" التي يقيم فيها دائما أجانب من جنسيات أوربية للاطلاع على تجاربهم مع الإسلام وطلب العلم.
رحلة الهداية
في اليوم الموالي بعت ما تيسر من الحانوت الذي أنشأته، وتصدقت بأثاثه وما بقي من المواد الغذائية والثياب على بعض المحتاجين من جيراني.
حدثت زوجتي "الغينية" أني ذاهب إلى موريتانيا لطلب العلم، فأبدت رغبتها في مرافقتي، حملت من الصّيدلاني أحمد وصديقه أدو رسالتين؛ الأولى لإمام مسجد "التوبة" والثانية لـ" الشيخ عدود" وتوكلت على الله.
كان السفر برّا من بيساو إلى "زيكان شُور" وهي بلدة حدودية مع السنغال، بعدها أقلتني سيارة، حملت معي موريتانيين إلى مدينة روصو السنغالية، عبرنا النهر وأصبحنا في موريتانيا.
طال الانتظار في محطة روصو الموريتانية، حتى حل الظلام كان الطريق منها إلى نواكشوط مظلما ومخيفا، وكانت السيارة تصطدم من حين لآخر بحفر الطريق حتى نال منا الإعياء والتعب.
دخلنا العاصمة ليلا، لم أكن أعرف أحدا بها، عرض علي أحد الإخوة المرافقين المبيت معه، وكان يسكن في عرفات، في الصباح الباكر قمت للصلاة كان الجو باردا ومغبرا والأعرشة والمنازل المتواضعة تفصح عن فقر شديد.
في ضحى ذلك اليوم سلمت الرسالة الأولى لإمام مسجد "التوبة" الذي كلف أحدهم بالذهاب إلى السوق الكبير وحجز تذكرتين لنا في السيارة المتجهة إلى "أم القرى"
إلى أم القرى
في المساء كنت على ظهر سيارة رباعية الدفع محملة بالأمتعة وطلبيات أهل القرية من المدينة، حُشرت بين مجموعة من الطلاب والرجال الملتحين، وكانت زوجتي في المقاعد الأمامية من السيارة.
كنت خائفا ومرعوبا فالصحراء تبسط سيطرتها على طول الطريق، والسيارة تسير ببطء والظلام يلف المكان.
همس الشيطان في أذني؛ أنت ذاهب إلى المجهول، وسيتمّ اختطافك وسبي زوجتك..
صدقته فالصورة الخادعة التي ينقلها الإعلام الغربي عن المسلمين، هي أنهم أصحاب عنف وتطرف .. أشعل أحدهم مصباحا يدويا فحدقت في الوجوه إنها نفس اللحى والعمائم التي رأيت أصحابها على الشاشات الصغيرة في أفغانستان وشمال مالي!
دار مونولوج بيني وبين نفسي لماذا أخاطر بنفسي وبزوجتي؟
عندما وصلنا منعرج "أم القرى " وانحرفت بنا السيارة ذات الشمال، صدقت حدسي وقلت إنها النهاية .. وكلما توغلت في الصحراء أكثر، كانت ضربات قلبي تتسارع وأشعر بالقلق الشديد على زوجتي التي كنت سببا في غربتها عن الأهل والديار.
والمؤذن يرفع أذان العشاء دخلنا القرية النائمة بين أحضان الرمال، بدأ الركاب ينزلون واحدا تلو الآخر، حتى بقيت أنا وزوجتي والمختار (صاحب الحانوت بالقرية) عندما وصلنا إلى منزله أصرّ على نزولنا عنده وأكرم وفادتنا خمسة أيام بلياليها.
يصف دسيلفا يومه الأول في أم القرى:"عند انبلاج خيوط الفجر الأولى تراءت القرية أمام ناظري بيوت متناثرة، وأخبية وأصوات ترتفع بالتلاوة، تختلط بها أصوات الحيوانات..
ساءلت نفسي ما الذي جاء بك إلى هذا المكان المعزول عن العالم، فجاء الردّ سريعا ومفحما، إنها الطريق إلى الله وفي سبيلها تهون الصعاب.
كنت متلهفا للقاء الشيخ محمد سالم عدود، وجدته كما أشتهي رجلا دمث الأخلاق لايتفوه إلا بالطيب من الكلام.. أعتبر أن لقائي به كان فرصة العمر فقد رباني بالأفعال قبل الأقوال، وكنت في كثير من الأوقات أتأمل حركات الشيخ وسكناتها وأقلدها.
وبعد مرور كل هذه السنوات على رحيله، ما زلت أجهش بالبكاء مثل الصبيّ، عندما ينقل الأثير صوته عبر المذياع، أو أشاهد صورته على الشاشة، أبكي بحرقة وتحاصرني الذكريات الجميلة، لقد أصبحت ضائعا بعد وفاته.
كرم حاتمي
يقول عثمان البرتغالي أقمت في "أم القرى" ثمانية أعوام لم أبارحها، ولم أمارس أيّ عمل، وكانت كل أموري طيبة، فقد رزقني الله كما يرزق السمكة في البحر.
تصادف مجيئي إلى القرية مع انتهاء الأشغال في بناية للطلاب، أشرفت على إنجازها دولة خليجية أعتقد أنها "الكويت" حصلت على شقة فيها، وتنادى الجميع لتأثيثها، هذا يحمل سجادا وذاك وسائد وتلك مرجلا ومواعين شاي..وقد ولد ثلاثة من أبنائي في أم القرى.
بعد تلك السنوات المثمرة بالعطاء، قررت الإقامة في "توجنين" والبحث عن عمل بعد أن أصبحت أعيل أسرة من أربعة أفراد..
تعرفت على شيخ فاضل كان إمام المسجد بالحي هو: محمد الأمين ولد الطالب عثمان، وصحبته مع إخوة من جماعة الدعوة والتبليغ، كان لهم كبير الأثر في حياتي، فقد حظيت منهم بالصحبة الطيبة وجسدا لي أخوة الإسلام في العهود الزاهرة فلهم مني كل الشكر والعرفان بالجميل.
يعيش عثمان اليوم سعيدا في محله العامر بتوجنين بين زوجاته الثلاث وأبنائه الأربعة عشر 14 وقد حصل مؤخرا على الأوراق الموريتانية في لفتة نادرة من رئيس الجمهورية، كانت تكريما للمحظرة الموريتانية وطلابها.
يقول إنه لاينوي العودة لـ"البرتغال" وأنه عندما يكبر الأبناء سيعود إلى القرية الهادئة (أم القرى) لقضاء بقية العمر هناك.