الدكتورأحمد المنى
تعد سوق الإعلان الرقمي واحدة من أسرع القطاعات نموًّا حيث تقود التحول الرقمي عالميًّا مع تطور إستراتيجيات التسويق التقني (شترستوك)
لقد ناهز حجم سوق الإعلان الرقمي العالمي عبر الإنترنت 237 مليار دولار عام 2022، ويتوقع أن يصل معدل النمو السنوي المركب له إلى 15.7% بحلول 2030. ولعل أبرز عوامل هذا النمو:
زيادة استخدام الإنترنت والهواتف الذكية في العالم.
تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات لاستهداف الإعلانات بدقة.
انتشار منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، إنستغرام، تيك توك، وإكس.
التحول الكبير نحو التجارة الإلكترونية، ما زاد من الطلب على الإعلانات الرقمية. استخدام الفيديو والإعلانات التفاعلية كأدوات تسويقية فعالة.
ومن المتوقع أن تستمر السوق في التوسع مستقبلًا بفضل:
التطورات في إعلانات الذكاء الاصطناعي والتخصيص الفائق.
نمو الإعلانات عبر البث المباشر (Live Streaming) والواقع المعزز (AR).
زيادة الاستثمار في إعلانات البحث المدفوعة (PPC) والتسويق بالمحتوى.
تعد سوق الإعلان الرقمي واحدة من أسرع القطاعات نموًّا، حيث تقود التحول الرقمي عالميًّا مع تطور إستراتيجيات التسويق التقني. وبالتدقيق في هذا الاقتصاد الكبير نجد أنه يقوم على الانتباه؛ فجذب انتباه الزبائن، ثم الاحتفاظ به وتوجيهه، عناصر لها أهمية دائمة في هذا الاقتصاد. ونود في هذا المقال بيان ذلك، وإيضاح دور الذكاء الاصطناعي في تسارع نمو هذا الاقتصاد.
اليوم، يتنافس مقدمو هذه الخدمة "المجانية" على توزيع خدماتهم، لا يطلبون سوى رقم هاتف أو بريد إلكتروني يرسلون عليه رمزًا للتحقق من صلاحيته، ولا يتطلب الأمر من "المستفيد" سوى ثوانٍ معدودة
هل فيكم من يذكر بدايات انتشار الإنترنت أواخر القرن العشرين؟ هل فيكم من يذكر متصفحًا مثل "مكتوب" أو"Netscape"؟ لم تكن تللك الفترة بداية الإنترنت (الذي استخدمته البحرية الأميركية منذ مطلع السبعينيات)، ولكنها كانت حقًّا بداية انتشاره بين شعوب الأرض.
وكان إقبال الجماهير على هذه الظاهرة الجديدة قويًّا ومدفوعًا في الغالب بحب الاستطلاع والفضول، بينما كانت شركات تقديم الخدمة تستمتع بفترة ذهبية من جمع معلومات المستخدمين طوعًا وكرهًا.
كان الإقبال كبيرًا على الحصول على بريد إلكتروني واكتشاف مزاياه، وكان المستخدم مستعدًّا لقبول شروط مقدم الخدمة "المجانية"، بل كان متحمسًا لها؛ فكان مستعدًّا لملء استمارات طويلة ببياناته الشخصية واختياراته وهواياته، وما شاء مقدم الخدمة "المجانية" من معلومات.. وكان هذا المسكين مستعدًّا لانتظار يوم أو أكثر لـ"دراسة طلبه" والموافقة عليه!
أما اليوم، فيتنافس مقدمو هذه الخدمة "المجانية" على توزيع خدماتهم، لا يطلبون سوى رقم هاتف أو بريد إلكتروني يرسلون عليه رمزًا للتحقق من صلاحيته، ولا يتطلب الأمر من "المستفيد" سوى ثوانٍ معدودة.
فما هو الثابت والمتغير خلال هذه العقود الثلاثة؟.. أما الثابت فهو أن مقدمي الخدمة يجتهدون في تحقيق مصالحهم، وأما المتغير فهو الوسائل والطرق المتبعة.
في البداية كان المستخدم مهتمًّا ومندفعًا؛ فكان يركز انتباهه لـ"متطلبات الخدمة"، وكان مقدم الخدمة يتوسع في هذه المتطلبات فيحصل على ما يريد من بيانات، ثم يستخدمها في الكسب من الترويج أو التأثير، أو غير ذلك من الأنشطة المدرة للدخل.
مثال ذلك أن يقول مقدم الخدمة لشركة تجارية: "أستطيع عرض بضاعتكم على مليون شخص بالصفات المناسبة لبضاعتكم، فكم تدفعون؟" ويقول مثل ذلك لحزب سياسي في حملة انتخابية، وهكذا..
أما اليوم، وفي عصر السرعة الفائقة، فقد تكفل الذكاء الاصطناعي بجمع المزيد من بيانات المستخدمين، من خلال الربط بين بروفايلاتهم والمواقع والصفحات التي يزورونها، والمدة الزمنية التي يقضونها أمام كل صفحة، وأنواع وعينات المحتويات التي يتفاعلون معها..
إذا نجح الموقع في الاحتفاظ بانتباه المستخدم استثمر ذلك الوقت في بناء الثقة بينهما؛ تمهيدًا للمرحلة الثالثة -وهي الأخطر- ألا وهي توجيه الانتباه
في البداية، كان المستخدم يقدم انتباهه مجانًا وبطيب خاطر لمقدم الخدمة، ويضعه تحت تصرفه فيفعل فيه ما يشاء. أما اليوم، فقد تكاثر مقدمو الخدمة، وازداد وعي المستخدم، وتوجسه من الجرائم السيبرانية وإساءة استخدام البيانات، وغير ذلك من العوامل التي قلصت بشكل كبير إمكانية ولوج مقدمي الخدمة إلى مساحة الانتباه لدى المستخدمين. ومع تقدم الزمن، أنشأ التجار والباحثون عن زبائن مواقعهم الإلكترونية؛ فصاروا ينافسون مقدمي الخدمة التقليديين على انتباه المستخدمين.
وهكذا نشأ التنافس القوي بين كل هؤلاء على المستخدمين المساكين، وتطورت خوارزميات الذكاء الاصطناعي وتنافست في إنتاج مواد جاذبة للانتباه، قصيرة المدة سريعة الوصول واضحة الإيحاء والدلالة، تعرض نفسها على المستخدم من غير سابق طلب ولا علم بها. وفي كل الحالات، تمر معركة الانتباه بمراحل ثلاث: الجذب والاحتفاظ والتوجيه.
جذب الانتباه هو المرحلة الأولى، وهي الأساس، هدفها خطف انتباه المستخدم لينشغل بالمعروض، فيضغط زرًّا أو رابطًا يُدخله إلى موقع المحل أو المتجر، ويصرفه عن المنافسين؛ فيخرج من حلبة تنافسهم وينصرف عن معروضاتهم. بهذا تنتهي مهمة المرحلة الأولى وتبدأ مرحلة أصعب وأكبر تحديًا، وهي مرحلة الاحتفاظ بالانتباه.. الاحتفاظ بالمستخدم داخل المتجر، والحرص على ألا يخرج فيصطاده المنافسون.
تتفنن خوارزميات الذكاء الاصطناعي في عرض البضائع الأقرب إلى ذوق المستخدم حسب بياناته في وسائل التواصل الاجتماعي، وإلى خصائصه البدنية والثقافية واهتماماته حسب المواقع التي يتصفحها والوقت الذي يقضيه أمامها، وغير ذلك من البيانات التي تمكن قراءتها من السلوك الإلكتروني للمستخدم.
إذا نجح الموقع في الاحتفاظ بانتباه المستخدم استثمر ذلك الوقت في بناء الثقة بينهما؛ تمهيدًا للمرحلة الثالثة -وهي الأخطر- ألا وهي توجيه الانتباه.
في هذه المرحلة يكون المستخدم قد اطمأن للموقع وزاره وأعاد زيارته مرات؛ فيبدأ الموقع في اقتراح "بدائل" أو "معززات" أو ما إلى ذلك من التسميات الهادفة إلى توريط المستخدم في عادات استهلاكية جديدة، سواء كانت في الملبس أو المأكل أو المركب أوالترفيه… إلخ.
هنا أيضًا يبرز دور الذكاء الاصطناعي في اقتراح تلك البدائل والمعززات، مستخدمًا ما يتاح له من بيانات في إقناع المستخدم؛ فتقنيات الذكاء الاصطناعي تتيح تتبع سلوك المستخدم جغرافيًّا وإلكترونيًّا، فتتعرف على المواقع التي زارها، وتفاعله معها، والمدة التي قضاها في كل موقع، وتضيف إلى ذلك بيانات الطقس وعروض الموسم، وغير ذلك من المعلومات المتعلقة بالبيئة؛ فتطبخ من كل تلك البيانات عروضًا "مناسبة"، بل "مغرية"، تدفع المستخدم لاقتناصها.
وأمام هذه الوضعية نتذكر مقولة شهيرة متداولة "إذا لم تدفع الثمن، فلست الزبون، بل أنت المنتج الذي يتم بيعه"… هذه العبارة الشهيرة (المنسوبة غالبًا إلى أندرو لويس أو ريتشارد سيرا) تلخص نموذج عمل العديد من المنصات المجانية مثل:
مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، إنستغرام، تيك توك).
محركات البحث (غوغل).
التطبيقات المجانية التي تعتمد على الإعلانات.
أمنك من أمن بياناتك؛ فكلما حافظت على بياناتك حفظت أمنك وخصوصيتك
كيف يعمل هذا النموذج؟
أنت تقدم بياناتك مجانًا (اهتماماتك، سلوكك، تفاعلاتك، وحتى موقعك الجغرافي).
الشركات تبيع هذه البيانات للمعلنين لجعل الإعلانات أكثر استهدافًا وفاعلية.
النتيجة: أنت "المنتج"، والمعلنون هم "الزبائن الحقيقيون".
كيف تحمي نفسك؟
قلل مشاركة البيانات الشخصية.
استخدم أدوات منع التتبع (مثل: VPN أو متصفح Brave).
اقرأ شروط الخصوصية قبل الموافقة عليها.
ويلاحظ المرء تكرر هذه الظاهرة مع نماذج الذكاء الاصطناعي وإن باختلاف طفيف؛ فعند ظهور شات جي بي تي كان "المجاني" محصورًا كمًّا وكيفًا، إذ كان "طعمًا" لدفع المستخدمين إلى الاشتراك المدفوع، وبمجرد أن ظهرت نماذج أخرى مثل ديب سيك اهتزت سوق الذكاء الاصطناعي واشتد التنافس، وها هي النماذج تظهر تباعًا، منها المتخصص والعام، ولعل الأيام ستكشف قريبًا عن التوازن الذي ستستقر عليه السوق ومدى ذاك الاستقرار.
والخلاصة، إن أمنك من أمن بياناتك؛ فكلما حافظت على بياناتك حفظت أمنك وخصوصيتك. ويؤثر عن الدكتور مصطفى محمود (رحمه الله) قوله: "الخصوصيّة قوّة، فالناس لا يستطيعون تدمير ما لا يعرفون، أنت سيّد ما تخفيه، وأسير ما تفشيه".