محمد/ سيدناعمر
كانت فتاة في ريعان الشباب، جمعت بين متناقضات عصرها فهي تنحدر من وسط محافظ ولكن لغة (موليير) كانت حاضرة فيه.
عشقت الأصوات الإذاعية وهي تسكن حاضرة تحاصرها الكثبان الرملية، لا عهد لها بالحضارة والتمدن، تـنـقل تلك الأصوات الإذاعية ثقافات أمم وحضارات.
نالت قسطا وافرا من العلم والثقافة في محيطها، فكان ذلك حافزا لها على تحقيق حلمها في عشق الميكرفون والجلوس أمامه.
في رحلة البحث عن العالم الجديد الذي لم تكن تعرف عنه إلا أصواتا رخيمة تنقلها محطات إذاعية كانت تسترق السمع إليها حينا من الدهر.
اجتمعت عوامل الطموح والثقافة بمعيار ذلك الزمن، والفرصة المناسبة لولوج الإذاعة الوطنية كأول صوت نسائي يزاحم الرجال في مهنة المتاعب بموريتانيا التي كانت ما تزال تتلمس خطى التأسيس.
عشقها الموريتانيون وعاشت في قلوبهم لعقود مع جملة "هنا نواكشوط" إنها الإعلامية الراحلة: الناها منت سيّدي.
..سـيرة ومَسيرٍة
ولدت الناها عام 1946 بمدينة بوتلميت حاضرة الثقافة والعلم وملتقى الطامحين للريادة والتميز من أبناء هذا الوطن.
نشأت وترعرت في بيئة علمية محافظة كان لها الأثر البالغ في تربيتها وتكوين شخصيتها الشغوفة بالمعرفة وحب الاطلاع..حفظت القرآن في وقت مبكر وتعهدت كتبا فقهية تعلمت منها الأحكام والعبادات.
وفرت ظروف انتقال الأسرة من بوتلميت إلى العاصمة نواكشوط فرصة زيارة الإذاعة الوطنية الوليدة، والحصول على وعد بدخول مهنة المتاعب عبر تدريب مهني لاحق.
أوفى مدير الإذاعة وقتها بوعده ودخلت الناها الإذاعة، وخضعت لتدريب بعده أجرت امتحانا في النحو والتاريخ والجغرافيا والصوت.. كانت السيدة الوحيدة المشاركة، وقد تم اختيارها من طرف اللجنة المشرفة على معايير منها:نوعية خامة الصوت، والأداء المميز، مع بعض الملاحظات التي تغلبت عليها بالمطالعة والتدريب المستمر.
كانت الإذاعة حينها تزخر بكوكبة من الصحفيين اللامعين: محمد محمود ودادي، دحن حمود، كابر هاشم ، ناجي محمد الإمام..
وتزامن ذلك مع العقد الثاني من تأسيس الدولة الذي عرف أحداثا هامة غطتها الإذاعة كتأميم "ميفرما" وإنشاء العملة الوطنية إضافة إلى الحراك السياسي لحزب الشعب وتفاعل التيارات السياسية الموجودة في تلك الحقبة.
في فترة وجيزة استطاعت الناها أن تحفر لها قصة نجاح وتنال إعجاب وتقدير الزملاء والمستمعين في كافة أرجاء الوطن..
مارست العمل السياسي من بوابة أول حركة نسائية وطنية، وانتخبت كاتبة اتحادية في المجلس الأعلى للنساء 1973 وهو منصب رفيع آنذاك.
توشّحــت مسيرتها بعديد الجوائز والأوسمة ونالت التكريم من شخصيات عربية خالدة (جمال عبد الناصر لحبيب بورقيبة..فاطمة بن مبارك..)
ولأنها عاشت من أجل الوطن؛ كُــّرمت في يوم الوطـن من طرف فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، خلال حفل رفع العلم في ذكرى الاستقلال .
فجع الوسط الإعلامي يوم 24 يوليو 2021 برحيل الناها تاركة سيرة تنضح عطاء وميراثا من المهنية والخلق الرفيع..
لن نوفيك حقك أيتها (العميدة) مهما سطرنا من حروف حزينة باكية..
الموت يغيب الأجساد لكن العطاء ســـرُّ من أسرار الخلود والصادقون من أمثالك لا يموتون..
طوبى لك فقد أديت الأمانة، وزدت الأجنحة ريشــا وفرشت السجادة الأحمر "لبنات حواء" على دربك الممتد إلى الخلود.