محمدن إسلم المختار/ كاتب صحفي
في زوايا العاصمة نواكشوط وأحيائها المتنوعة، ينبعث صوت نشيد طفولي بسيط لكنه مؤثر، يصدح عبر مكبرات الصوت الصغيرة المرتبطة بعربات الفشار المتناثرة على الأرصفة في كل مكان.
إنك لن تستطيع الإفلات بأذنيْك من صدى صوت النشيد المتردد في كل الأزقة والطرقات.
"ألف باء تاء ثاء... جيم حاء خاء دال" يبدأ النشيد، ليتردد في آذان الأطفال الذين سرعان ما يتجهون نحو مصدر الصوت حاملين في أيديهم بعض النقود لشراء أكياس الفشار.
بينما يتجول صاحب الفشار بعربته في الشارع المزدحم، يلفت انتباه طفل صغير لا يتجاوز عمره الثلاث سنوات بصوت النشيد الطفولي العجيب.
تبدو على وجهه علامات الدهشة والفرح، وتعلو وجهه ابتسامتُه الصغيرة وهو يلتفت إلى والديه، يشير بيديه نحو العربة ويقول بحماس: "أريد ألف باء!".
بكلمات قليلة مليئة بالبراءة، يعبر الطفل عن رغبته في الحصول على كيس الفشار الذي يجذب انتباهه.
هذه اللحظة البسيطة توضح حقيقة أن هذا النشيد لا يقتصر تأثيره على الأطفال الأكبر سناً فقط، بل يمتد ليشملهم جميعا حتى أصغرهم، حيث يتخذون من هذا الصوت علامةً لفرحة جديدة ونكهة مفضلة في عالمهم الصغير.
ولا يقتصر عشق الفشار على الأطفال فقط؛ بل يشارك فيه الكبار البالغون المنهمكون في واجبات العمل والضغوط اليومية، فيجدون في شراء الفشار استراحة قصيرة، ونكهة من الحنين إلى الماضي.
يستوقفون بأبواق سياراتهم عربات الفشار، يختارون أكياسًا مملوءة بأحجام مختلفة من هذه الوجبة المقرمشة، ويستمتعون بها أثناء تنقلهم بين المواعيد أو خلال انهماكهم في العمل.
الفشار بالنسبة لهم ليس مجرد وجبة خفيفة، بل هو أيضاً رمز للّحظات البسيطة والسعيدة التي تذكرهم بأيام الطفولة وتجعلهم يشعرون بالراحة والفرح. وبذلك، يظل الفشار، بتلك النكهة، جسرًا يربط بين الأجيال ويضيف لمسة من السعادة إلى حياة الجميع.
والعاصمة نواكشوط بعمرانها المختلف بعضه عن بعض، وأحيائها الشعبية، تمثل خليطًا متنوعًا من الحياة والحركة الدؤوبة حيث تتباين الشوارع بين الواسعة والمزدحمة، والضيقة التي تكاد تكون مختنقة من كثرة المارة.
في هذا الصخب الحضري، تجد عربات الفشار طريقها بصعوبة، يتجاوز أصحابها الحفر في الطرقات، ويتجنبون السيارات المسرعة، بينما يحاولون جاهدين الحفاظ على توازن عرباتهم المحملة بالفشار وهم يدفعونها في حماس منبعث من طغيان صدى النشيد المُدوِّي: ألف باء تاء ثاء، جيم حاء خاء دال..... .
الباعة الذين يجوبون شوارع العاصمة يحملون معهم قصصًا متنوعة، ويعملون بجد في ظروف ليست سهلة دائما.
يستيقظون عادة في الصباح الباكر ليجهزوا الفشار قبل أن يخرجوا بعرباتهم إلى أماكن تجمع الأطفال مثل دور الحضانة والمدارس والأسواق.
وعند الظهيرة، يبدأون بالتنقل بين الأحياء السكنية، حيث ينتظرهم الأطفال بفارغ الصبر، منجذبين بألحان النشيد المحبب.
فعلى الرغم من قسوة الطقس أحيانًا، سواء كان حرًا شديدًا أو أمطارًا مفاجئة، فإن الباعة لا يتوقفون عن العمل.
يقول أحد باعة الفشار إنه من الصعب العمل في نفس الروتين، حيث يدفع العربة لمسافات طويلة لاسما حين يكون الجو صعبًا جدًا للعمل، لكنه حينما يرى الأطفال يركضون نحوه مبتسمين، يشعر بأن كل هذا الجهد يستحق العناء."
ويرى أحدهم أيضا أن هذا النشيد البسيط يمثل جزءًا من التراث الشعبي الحديث، حيث يُغني الأطفال الكلمات بينما ينتظرون دورهم لشراء الفشار.
وقريبا ستصبح هذه النغمة بمثابة جسر بين الأجيال، تذكر الآباء بأيام طفولتهم وتبث الفرحة في نفوس الأطفال في المستقبل.
وسيظل باعة الفشار جزءً لا يتجزأ من حياة العاصمة نواكشوط، يلونون يوميات الأطفال بنغمات مبهجة وطعم مميز مُخلّد في الذاكرة.
ومن خلال النشيد الذي يرددونه يثبتون أن الفشار ليس مجرد وجبة خفيفة، بل هو لحظة من السعادة البسيطة التي تجمع الكبار والصغار على حد سواء، بطعمه اللذيذ وصوته الشجي، "ألف باء تاء ثاء..... .