نواكشوط: المدينة التي تتنفس ببطء

 

محمدن إسلم المختار

 

كانت الشمس لم تنبعث من مرقدها بعد، كأنها استلذَّت النوم في أحضان الغيوم التي غشيتها بحنان، فتكاسلت عن صحوها المعتاد الذي أجلته للحظات استسلمت خلالها لنوم عميق.

كان الوقت باكرا والهواء طريا لدرجة أن نسائم الصباح ظلت تلاطف الأبدان بخفة ونعومة عجيبين.
الناظر في الأفق يلاحظ آخر عساكر الليل في السماء وهي تغادر وتخلي الميدان.
نجوم قليلة ظلت متناثرة حول القمر الباهت قبل أن يتلاشى إثر بوادر استيلاء طلائع النهار على الكون بقيادة الشمس.
وأسفرت الشمس عن وجهها بثقة بالغة، وسددت سهامها الذهبية المُتوهِّجة بدقة عجيبة، وعناية شديدة إلى حيث الأرض من جهة مدينة نواكشوط.
أصحاب متاجر تقسيط مواد الغذاء أشرعوا أبوابها لاستقبال الزبناء الذين توافدوا عليها تباعا لشراء حاجات الصباح.
ورائحة الخبر الساخن كانت تتفاوح من المتاجر في كل مكان بعد أدمه بزبدة الزهرة الشهية، لتبعث في المارّين الرغبة في تناول وجبة الفطور بكل اشتهاء ونهم.
وغير بعيد، وعلى كل شارع، وكل طريق، وفوق كل رصيف، بدأت السيارات المختلف أحجامها، وأصنافها، تتسابق سراعا بضجيجها المزعج وإلحاحها المتواصل مؤذنة بمعاناة جديدة في يوم جديد.
كان ساكنو مدينة نواكشوط منهمكين في تحضير الفطور وإعداد طقوس الشاي الموريتاني الأصيل.
الحمد لله… لفظها (مراد) بارتياح تعبيرا عن إدمان عارم، وهو يُكوِّر عمامته البيضاء على رأسه، هامًّا بالانصراف، بُعيد ارتشافه آخر جرعة من آخرة كؤوس شاي الصباح، مغادرا بيته في طرف بعيد من وسط المدينة، قاصدا سوق الهواتف الخلوية في مركز العاصمة لشراء بعض الأغراض.
زاحم المتراصِّين على أرصفة الشوارع الكبرى وهم يستوقفون سيارات الأجرة التي لا تستوعب عددهم، وينادون ويُشيرون بأيديهم على السائقين، كل حسب وجهته.
فقد دأب الموريتانيون على تشارك سيارة الأجرة ذات الوجهة المعلومة منذ ما يناهز عقدين من الزمن أو يزيد، بعد أن اعتادوا على ذلك مع باصات النقل الحضري قبل ذلك بزمن بعيد.
سيارات الأجرة ذات الوجهة المعلومة تُقلُّ ستة راكبين، اثنان يتزاحمان بشدة في المقعد المحاذي لمقعد السائق، والأربعة الباقون يتزاحمون في الخلف، وهكذا تكون الحال جيئة وذهابا.
ويظفر (مراد) بسيارة أجرة بعد جهد وعناء.
السيارة لا تجد غالبا مجالا للتوقف للراكبين الذين يستحوذون على كل الرصيف، فتضطر للتوقف وسط الشارع، فيتسابقون إليها ويتطايرون فيها بسرعة البرق، وهي متوقفة، فتكون من نصيب الستة الأوائل دخلوها، ويرجع الباقون بخيبة أمل مريرة، في انتظار ظَفَر بسيارة أخرى أو ظَفَر بخيبة أمل جديدة.
أما أصحاب المروءة منهم فإنهم غالبا ما يُخلُون أماكنهم للنساء الخاسرات سلفا في هذا النزال الذكوري العنيف، فينزلون لهن عن أماكنهم ويستعدُّون لخوض معركة ركوب أخرى لا يدرون متى يُوفقون فيها.
توقف سيارة الأجرة وسط الشارع يكون مرده كذلك استعجال بعض السائقين وحرصهم الشديد على أن لا يمنحوا منافسيهم من خلفهم فرصة الجواز حتى يطمئنوا على أنهم ظفروا بعدد مقاعدهم من الركاب.
أصبحت هذه عادة سارية ويتقبلها المدمنون عليها بصدر رحب.
وفور اضطرار سيارة أجرة للتوقف وسط الشارع ينحبس طابور السيارات المتتابع من خلفها، فيتعالى زمير أبواقها باستمرار حتى تجد مجالا للانحراف عن الطريق.
وقد لا تجده فيتواصل الزمير المدوِّي، بينما تَهمُّ السيارات من خلفها بتجاوزها بغضب وانفعال، فتتشابك مع الطابور القادم من الوجهة المعاكسة، عندها تسعى كل سيارة إلى إيجاد منفذ للهروب فتنسدُّ المنافذ من كل اتجاه… ويتحول الشارع إلى سجن مرير.
ويقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
ربما تراشق اثنان منهم بسهام الكلام والشجار ريثما تنفك عقدة الاختناق بفرج مفاجئ.
وشرطي المرور يكون في أشد أوقاته انزعاجا وبؤسا، فكلما أوجد منفذا ولو يسيرا لتصحيح الوضع، تسابقوا إليه جميعا وانضغطوا فيه، فازدادت الحال سوءً على سوء.
ربما فاجأتهم سيارة إسعاف مُستعجِلة وظلَّت صفَّارة إنذارها صارخة دون أن تظفر بمجال ولو يسير تتقدم فيه.
وربما انحشر حمار بعربته المحملة بالبضائع بين سيارتين، لا يستطيع حراكا، يدمي ظهره من آثار الضرب، وكلما همَّ بتمرُّد أو مشاكسة بسيطة عاجلَه صاحبه بعصاه الغليظة في محل الجرح من ظهره، فانحنى بألم يضطره إلى ميلان.
الحمار في مدن الحضر هو أول ضحايا نكران الجميل، فهو يعمل لصاحبه بكل إخلاص وود، على أن يتقاضى راتبه في كل لحظة مُسدَّدا على شكل خريطة مرسومة على ظهره بمداد من العذاب.
تعالى النهار وبدأت سياط الشمس تلهب الأرض وما عليها في فصل الصيف بقسوة وجبروت، فقد اعتادت أن تكون في أشد أوقات سطوتها في هذا الفصل من العام.
احتبس الهواء تماما واغتسلت الأبدان بالعرق في جو يختلط فيه الخصام وضجيج السيارات المنضغطة بعضِها مع بعض.
أما الراجلون فهم وحدهم المحسودون على نفاذهم من كل مجال بسهولة وسلاسة.
تنفرج عقدة الزحام في مرحلة وتختنق في مراحل أخرى، و(مُراد) في سيارة الأجرة يصغي بانتباه شديد إلى حديث السائق عن نفسه وفلسفته الكونية في حل مشكل السير، أما بقية الراكبين فكانوا لا يشاركونه الحديث إلا حينما تنفسح لهم فرجة صمت صغيرة قبل أن يقاطعهم بهذره المتواصل من جديد… إنه يراهم أجدر بالإنصات ويرى نفسه أجدر بالكلام.
الدراجات ذوات الأحواض والعجلات الثلاث المصممة أصلا لشحن البضائع أصبحت تمارس خدمة سيارة الأجرة حيث تستوعب في أحواضها ما يناهز عشرين راكبا.
وباصات التوك توك الصغيرة تراوغ في كل المنافذ بكل مكر وتهوُّر.
وعند كل توقف لمحطات الإشارة ينتصر جحافل المتسولين بلباسهم الرث وعاهاتهم المتباينة في بسط سيطرتهم على الوضع لصالح هدفهم المشترك.
هم في أغلبهم ماهرون في اقتحام أفئدة المتصدقين، فمنهم من يستجدي بإظهار علة في بدنه، ومنهم من يستجدي بضراعة واستكانة في طبعه، ومنهم من يستجدي بتلاوة القرآن الكريم.
الضراعة أسلوب المتسولين الأصحاء في أبدانهم، يخادعون بها ليثبتوا بها استحقاقهم للتوسل ويخفون وراءها جَلَدهم وقدرتهم على العمل.
سمع (مراد) أحد المتسولين الأصحاء يتحدث بغيرة شديدة عن متسول مُقعد آثره متصدق بمبلغ كبير.
وفجأة اكتظ الشارع بالسيارات بعشوائية وفوضوية بعدما نشب شجار عنيف بين متسوليْن تشاركا صدقة ولم يردَّ أحدهما على الآخر حقه.
مازال (مراد) يستمع إلى آخر فصل من بطولات السائق المهذار وهو في معرض حديثه عن تقريعه لرجل سياسي مشهور أعطاه وعدا كاذبا.
لم يأبه للإشارات الحمراء على الشارع وهو يروي بحماس انتصار الكرامة والإباء على الكذب والخذلان اللذيْن عهِدهما من السياسي المشهور.
كشف انفراج أزمة الشجار عن سيارة أجرة قادمة من وسط المدينة مكتظة بالراكبين رجالا ونساء، بدا من حمولتها أنها سائرة إلى وجهة بعيدة.
وكان صندوقها الخلفي المفتوح مشحونا بحاويات كرتونية بها سمك وفاكهة وخضروات، وفي زاوية منه ديك حي مثبت قريبا من صُرة بها ثقب صغير يسرق منه بعض الحبوب.
كان كل من يرى المشهد يضحك من تصالح الديك مع ذاته، وانعدام أمانته حتى وهو على جناح سفر.
وأخيرا، نزل مراد قريبا من السوق تاركا السائق المهذار مسترسلا في حديثه الشيق عن بطولاته الخالدة أيامَ شبابه الخاليات.
ترى هل سيظل الحال على ما هو عليه! أم أنه سيتغير إلى أحسن! …نرجوا ذلك.