أحمد المسلمانى
ما إنْ أصدر المهندس فى وكالة ناسا «هومر هيكام» مذكراته بعنوان «سماء أكتوبر»، حتى حظيت باهتمام كبير. وفى عام ١٩٩٩ تم إنتاج الفيلم السينمائى «سماء أكتوبر- October sky» للمخرج «جو جونستون»، مأخوذًا عن تلك المذكرات. إنه فيلم رائع للغاية، وهو فيلم ملهم، يجب أن يشاهده النابهون من طلاب المراحل الإعدادية والثانوية، فهو عمل سينمائى يعزِّز الإرادة والعزيمة والطموح، وهو أشدّ ما يحتاجه الشباب العربى. فى قرية مغمورة تقع فى غرب فرجينيا، تدعى «كولوود»، ولد المهندس «هومر» فى أسرة تعمل هى وكل القرية فى منجم للفحم.
يعانى الأب الذى يقود عمال الفحم من أمراض المناجم، وهو على الدوام ملطّخ بلون الفحم، ولا يفعل شيئًا غير ذلك العمل الشاق. وبينما الابن هومر فى سنوات الدراسة الثانوية، حتى كان الخبر المدوّى فى أمريكا والعالم، والخاص بنجاح الاتحاد السوفيتى فى إطلاق القمر «سبوتنيك»، أول قمر صناعى فى التاريخ. كان ذلك الحدث نقطة تحول كبرى فى الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، وهو – وذلك الأهم – نقطة تحول أكبر فى تاريخ العالم، فلقد بدأ عصر الأقمار الاصطناعية الذى أوصلنا للعصر المذهل الذى نحياه اليوم.
وكان وصول السوفييت إلى الفضاء بقمرهم هذا صدمةً عنيفة لدى الشعب الأمريكى، وكان الردّ أنَّه لا بد من أن تُطلق أمريكا قمرها، بل والوصول إلى القمر ذاته ونزول روادها على سطحه. كان «فون براون» العالِم الألمانى الأصل، الذى صعدَ بأمريكا إلى الفضاء، البطل القومى لأمريكا والملهم الأكبر للشباب المعنى بالعلم. وهنا بدأ الصبى «هومر» محاولات مواجهة السوفييت، وشرع يراسل «فون براون» ويروى له ما يفعل هو وزملاؤه الثلاثة.
أراد والد هومر أن يصبح ابنه عاملًا فى المنجم كأبيه، وقد ضغط عليه بعد أن بدأ تجاربه الصاروخية البدائية فى أثناء دراسته المرحلة الثانوية. خضعتْ القرية البائسة بأكملها للعمل فى المنجم، ولم يمنعهم اعتلال الرئة والموت تحت الأنفاق والتعب المتواصل بلا انقطاع.. من استمرار العمل، لاستمرار الحياة. لكن «هومر» أخبر والده أنه لا يريد النظر تحت الأرض، بل النظر فوقها، ومن ثم عدم التعلق بحفر المناجم، بل غزو الفضاء. لم تكن هناك مراجع علمية فى تلك الأثناء، ولكنه استطاع مع زملائه أن يصل فى نهاية المطاف إلى مشروع صاروخ، تمّ عرضه فى مسابقة كبيرة للعلوم، بعيدًا عن القرية ومنجمها.
وبعد عددٍ من المحاولات الفاشلة، والمواجهات العائلية، ونقص الإمكانات، وتعنت السلطات المحلية، يتمكّن فى النهاية من الفوز فى المسابقة بالمركز الأول، ومن الحصول على منحة جامعية، بل ومن لقاء العالم الكبير «فون براون». ثمة ما يلفت الانتباه فى الكتاب والفيلم: الأول: أن دور معلِّمة المدرسة كان أساسيًّا فى زرع العزيمة والإصرار. الثانى: أن دور الأم كان حاسمًا فى دعم الابن وحماية طموحه. الثالث: أن دور المجتمع المحيط والمتمثل فى أهالى القرية كان كبيرًا وصادقًا.
الرابع: أن فون براون – نموذجًا للعالم الكبير – لم يتعال على طالب الثانوية وقام بالرد عليه وتشجيعه. الخامس: أن الوالد الذى كان واقعيًا أكثر مما يجب ولم يرَ فى العالم سوى منجمه وفحمه، انتهى داعمًا لابنه ومشروعه.
السادس: أن الابن الذى رأى نفسه مختلفًا كثيرًا مع والده لم يكن عاقًّا له، بل رأى فى والده ملهمًا كبيرًا بقوته وعزيمته وصلابته، فأخذ القدوة العلمية من فون براون، والقدوة الإنسانية من والده. السابع: إعطاء الأمل من المنطقة صفر؛ إذْ لا يمكن لأربعة طلاب ثانوية من قرية لا يراها أحد فى جبال الأبلاش أن يفكروا فى صناعة صواريخ لمواجهة الاتحاد السوفييتى.. ثم ينجحوا. الثامن: الترويج الذكى لمقولة «الحلم الأمريكى»، حيث إن الولايات المتحدة هى أرض الفرص وتحقيق الأحلام. إننى أدعو لتدريس ملخص لهذه المذكرات فى المدارس، وأن يتم عرض الفيلم وعقد ندوات بشأنه فى المكتبات العامة ومراكز الشباب. كان أول صاروخ أنتجه هومر وزملاؤه قد سمّاه أحدهم «البركيت»، نسبةً إلى طائر لا يطير.
وفى العالم أكثر من (٦٠) نوعًا من الطيور التى لا تطير كطائر البطريق، ويُعد النعام أكبر طائر لا يطير. كان ذلك التشبيه لأول صاروخ بطائر لا يطير من باب السخرية من صعوبة الحلم، واستحالة الهدف. ولكنهم نجحوا فى نهاية المطاف.. وانطلق الصاروخ. لقد رأيتُ فى ذلك الوصف جوهر ذلك العمل، بل وجوهر النجاح فى العالم المعاصر، إذْ لا يمكن أن يركن المرء للبلادة والاستسلام لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر، كالطائر الذى لا يمكنه أن يطير.
فأصحاب العزيمة وصنّاع الأمل يدركون أنه يمكنهم أن يصعدوا إلى أعلى وأعلى، والوصول إلى ما لم يصل إليه السابقون، وهذا هو لبّ التطور الإنسانى. أصبح طالب الثانوية، ابن عامل الفحم فى قريته البائسة، خبيرًا مرموقًا فى وكالة «ناسا»، ويمكن لأى أحد لا يملك سوى الإخلاص فى العلم والجدّ فى العمل وعدم الركون إلى راحة اليأس.. أن يكون ما يريد. العلم هو الحل.. والعزيمة أيضًا.